مقدمة
“أهمية الإصلاح في المجتمعات البشرية بوجه عام”
للإصلاح دور عظيم في مسارات البشرية نحو الخير والصلاح والتطور والتقدم. حيث ما من مجتمع بشري إلا وهو في حاجة دائبة للإصلاح، لأن طبيعة النفس الإنسانية وطبيعة المجتمعات البشرية تجنح ما بين الفينة والفينة نحو العوج والخطأ والفساد، بل وتجنح أحياناً نحو الجريمة والرذيلة والضلال. كما أن الحياة البشرية بطبيعتها تمر في أطوار وأدوار مختلفة، ويطرأ عليها مستجدات ما بين الحين والآخر، فالحياة في حراك دائب، وتطور وتغير مستمر، بل ومن المحال أن تقف عجلات التغيير والتحور والتحول أو التطور. من هنا كانت الأهمية الكبيرة للإصلاح لأجل تعديل المسار، وتصحيح المعوج، وإصلاح الخلل ومقاومة الفساد ورد الناس إلى الجادة والهدى والإيمان، وتبصير الأفراد والمجتمعات بكل ما هو خير ونافع وصالح ومهم للحياة، وتذكيرهم بالصواب والحق والعدالة، والنأي بهم عن الخطأ والباطل والظلم وردهم إلى الإستقامة والبر وسبل النجاة، وتبصيرهم بطرائق النجاح والتطور والتقدم، ووضع أقدامهم على عجلة التنمية المستدامة والوصول إلى الأفضل والأحسن والأكمل، ووضع أيديهم على الخلل والزلل وأساليب الفشل والهلاك كي يصونوا أنفسهم عن ذلك لئلا يصابوا بما لا تحمد عقباه.
كل ذلك كي تبقى المجتمعات عبر حياة آمنة مطمئنة تعيش في رغد ورخاء، ونعيم مقيم وحياة فيها اليسر لا العسر، وفيها الصدق لا الكذب، وفيها النجاح لا الفشل، والتقدم لا التأخر، والحراك لا الجمود، والنور لا الظلام، والإستقامة لا العوج، وفيها النزاهة والموضوعية، لا التحيز القائم على غير الدليل والحجة. كل ذلك كي تعيش المجتمعات حياة العلم لا الجهل، حياة البحبوحة والأريحية لا الشدة والضنك، حياة الحلم للناس بالخير والنفع، لا الحلم لهم بالشر والسوء.
لذلك، ومن هنا كانت الرسالات السماوية، وكانت رسالات الأنبياء والأصفياء وهداة الإيمان والخير، قال تعالى: “وإن من أمة إلا خلا فيها نذير”.(1)
قال العلامة ابن كثير في تفسيره: “أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر وأزاح عنهم العلل، ، كما قال تعالى: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد” وكما قال تعالى: “ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة”. أ.هـ. (2)
فالشاهد من ذلك أن المجتمعات الإنسانية بوجه عام هي في أمس الحاجة إلى رسالات الإصلاح، سواء أكانت مجتمعات عربية وإسلامية أم مجتمعات أخر. من هنا نرى الكثير من الحركات التصحيحية في العالم كأوروبا وأمريكا وسوى ذلك من الدول، وكذلك الأفراد، فهناك على سبيل المثال الثورة الفرنسية ومبادؤها الإنسانية كالحرية والعدل والمساواة والتي من روادها جان جاك روسو، وهناك ثورة العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية، والثورة ضد التمييز العنصري في البلد نفسه ورائدها المعروف مارتن لوثركنغ الذي قضى نحبه لأجل مساواة السود بالبيض. وكذلك هناك الثورة المعاصرة في جنوب إفريقيا والتي قامت والتهبت ضد العنصرية، حتى استطاع السود في جنوب إفريقيا من أن يحوزوا على التحرير ويأخذوا حقوقهم ويتساووا بالبيض.
فالإصلاح للمجتمعات ضرورة لازبة ونهج لا بد منه، وإلا لاستحالت الحياة الرتيبة، والحياة الهانئة والوادعة، ولأكل الأقوياء حقوق الضعفاء، وغدت شريعة الغاب هي الحاكمة والمسيطرة، وفسدت المعايش والأذواق، واختلت الموازين والمعايير الدقيقة، وذوت الفطر السليمة، وانتشر الشذوذ، وعمت الفوضى وكثرت الجريمة. قال الله تعالى: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً”. (3)
قال العلامة القرطبي عند هذه الآية:
أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته؟ أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر في القتال بقوله: “ولولا دفع الله الناس” الآية، أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة أ.هـ. (4)
وقال العلامة ابن كثير في تفسير هذه الآية:
أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ويكف شرور أناس عن غيرهم كما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف أ.هـ. (5)
أهمية الإصلاح في المجتمعات العربية
لقد حبى الله سبحانه أمة العرب مكانة جليلة وقدراً سامياً رفيعاً. وجعلهم محل تلقي آخر رسالة سماوية إلى الأرض. فأنزل القرآن الكريم بلغتهم وعلى رجل عظيم منهم، وهذا بلا شك تشريف لهم وإعطاؤهم المحل الذي يليق. قال تعالى: “وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون”. (6)
فمن الطبيعي والبدهي حينئذ أن تتحمل أمة العرب رسالة وأمانة تميزها عن سائر الأمم، وتوجب عليهم الإضطلاع بها وحملها وأداءها على خير وجه. وإلا سيحاسبوا على التقصير والتفريط إن هم قصروا أو فرطوا أو ضيعوا.
“وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”. (7).
فأمة العرب يجب أن تبقى أمة إصلاح وعليها أن تأخذ زمام المبادرة في ذلك لأن الله تعالى قد اختارها لحمل هذه الرسالة وتبليغها للأمم كافة، والذود عن حياضها. فهي أمة رائدة وطلعة وينتظرها واجب أممي عظيم “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” (8) فما يصلح لأمة من الأمم قد لا يصلح لأمة العرب بحكم أنها أمة رسالة إلهية خالدة، مطلوب منها حملها وتبليغها لأمم الأرض كافة. وهذا على الصعيد الخارجي، وهو من الأهمية بمكان بحكم التكليف وضرورة التبليغ.
أما على الصعيد الداخلي فيلزم أمة العرب أكثر مما يلزم سواها بحكم وضعها الذي لا تحسد عليه. فبعد أن كانت أمة ذات سيادة بين الأمم، وصاحبة موقع متميز على الخريطة العالمية والدولية، وذات نفوذ عظيم وقوة جليلة وسيطرة مكينة، تخطب ودها أمم الأرض، وتهاب جانبها الشعوب كافة، وتحسب لها الحساب الكبير إمبراطوريات وحكومات قادرة ومتنفذة، وبعد أن كانت تقود العالم وتسيطر على كثير من جوانبه وأجزائه، غدت اليوم ألعوبة في أيدي العالم، إذ حسرت قوتها، وأصابها الوهن، ولم تعد يحسب لها الحساب الذي كان يحسب، فتذكر إن غابت، أو تستأمر إن حضرت، وغدت كما قال شاعر تيم
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
غدت أمة العرب في ذيل القافلة، وظهرت بمظهر التخلف فتبدلت أحوالها، وتغيرت مكانتها. فأمة من هذا القبيل إن لم تلزمها سياسات الإصلاح فتلزم من حينئذ؟ إذا لم تفكر هذه الأمة بمناهج الإصلاح فمن الأمة التي ستفكر في ذلك؟ يتوجب على أمة العرب قبل سواها من الأمم أن تنهج نهج الإصلاح، وأن تعيد النظر ما بين الفينة والفينة في سبل التغيير نحو الأفضل، كلما اعتارها خطب أو نزلت بها نازلة، أو رأت نفسها تمر في حالة من الضعف أو الترهل أو النكوص عن القوة، أو التخلف عن ركب الأمم. على أمة العرب أن تفكر مليا وأن تسائل نفسها. من الذي جعل من أمة العرب بعد أن كانت أمة ضعيفة مفككة مقسمة في ولائها ما بين الروم والفرس، فالغساسنة كانوا يتبعون دولة الروم. والمناذرة كانوا يتبعون دولة فارس، هذه الأمة التي كان بعضها يغزو بعضا، وغنيها لا يلوي على فقيرها، وقويها لا يعين ضعيفها، هذه الأمة التي كانت تعيش حياة الفاقة لدرجة أن بعض القبائل كانت تأكل إلهها من الجوع والمسغبة، حتى سارت الركبان بالمثل “بنو حنيفة أكلت ربها” وقد سبق لي أن قلت في بحث أعددته عن العرب:
كما أن العرب في تاريخهم قبل الإسلام كانوا كما وصفهم قتادة بن دعامة وهو سيد من سادات التابعين وعلم من أعلام العرب، سدوسي، قال عن تفسير قول الله تبارك وتعالى “وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”. كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكومين (محبوسين ومشدودين) على رأس حجر بين الأسدين: فارس، والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق فيها شأناً منهم. حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس أ.هـ. (9)
كما كانت تعيش أمة العرب حياة الأمية، والنبي العربي صلوات الله عليه هو القائل: “نحن أمة أميون لا نحسب ولا نكتب”. (10)
ما الذي أحال بعد ذلك أمة العرب كي تصبح قادة وسادة العالم؟
ما الذي جعل من أمة العرب أن تقوى على تقويض أكبر إمبراطوريتين في العالم آنئذ؟
وما أجمل وأعظم ما ساقه المؤرخ العلامة والمفسر ابن جرير الطبري في كتابه “التاريخ الكبير” في الدلالة على صغر شأن العرب قبل الإسلام أمام فارس وأن العرب قبل الإسلام لا شيء أمام أولئك الناس، ثم كيف غدوا بعد الإسلام أمام أولئك الناس أنفسهم.
قال العلامة المؤرخ الطبري:
إن أول عمل قام به أمير المؤمنين عمر مقاتلة فارس، فشق ذلك على المسلمين كثيراً، وكان ينتدبهم في كل يوم فلا ينتدب أحد إلى فارس. وتعلة ذلك: أن وجه فارس من أكره الوجوه إلى العرب وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم (أي الفرس) وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم أ.هـ. (11)
وقال أيضاً: ثم أقبل (أي المغيرة بن شعبة) وقد انتدبه سعد بن أبي وقاص لمقابلة ومحاورة رستم حين كان سعد حينها مريضا مصابا بقرح شديدة ولا يستطيع أن يثبت على الدابة، حتى انتهى إلى رستم، ورستم من وراء الجسر العتيق مما يلي العراق، والمسلمون من ناحيته الأخرى مما يلي الحجاز فيما بين القادسية والعذيب، فكلمه رستم، فقال: إنكم معشر العرب كنتم أهل شقاء وجهد، وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد، فأكلتم من طعامنا، وشربتم من شرابنا، واستظللتم من ظلالنا، فذهبتم فدعوتم أصحابكم، ثم أتيتمونا بهم.
وإنما مثلكم مثل رجل كان له حائط من عنب، فرأى فيه ثعلباً واحداً، فقال: ما ثعلب واحد؟ فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى الحائط (13) فلما اجتمعن فيه جاء الرجل فسد الجحر الذي دخلن منه، ثم قتلهن جميعاً. وقد أعلم أن الذي حملكم على هذا معشر العرب الجهد –بفتح الجيم- الذي قد أصابكم، فارجعوا عنا عامكم هذا، فإنكم قد شغلتمونا عن عمارة بلادنا، وعن عدونا، ونحن نوفر لكم ركائبكم قمحا وتمراً، ونأمر لكم بكسوة، فارجعوا عنا عافاكم الله.
فقال المغيرة بن شعبة: لا تذكر لنا جهدا إلا وقد كنا في مثله أو أشد منه، أفضلنا في أنفسنا عيشاً الذي يقتل ابن عمه، ويأخذ ماله فيأكله، نأكل الميتة والدم والعظام، فلم نزل كذلك حتى بعث الله فينا نبياً، وأنزل عليه الكتاب، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه منا مصدق، وكذبه منا آخر، فقاتل من صدقة من كذبه، حتى دخلنا في دينه من بين موقن به، وبين مقهور، حتى استبان لنا أنه صادق، وأنه رسول من عند الله، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا، وأخبرنا أن من قتل مناعلى دينه فله الجنة، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه، فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت كانت لك بلادك، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك فالجزية، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال رستم: ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع منكم هذا معشر العرب لا أمسي غدا حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم، ثم أمر بالعتيق أن يسكر، فبات ليلته يسكر أ.هـ. (13)
هذا هو أمر وشأن العرب عند فارس وغيرها من الأمم آنذاك، لا وزن لهم ولا قيمة ولا قدر، ولا يحسب لهم أي حساب، ولو أن رستم كان يأبه بهم ويحسب لهم حساباً يسيراً لما بات ليلته ثملا وغده سيكون في مواجهة لهذا الجيش القادم.
رأي العلامة ابن خلدون في العرب
ذهب العلامة الشهير ابن خلدون إلى رأي في العرب، يتلخص في أن العرب قوم لا يصلحون إلا بالدين، فإذا ما ابتعدوا عن الإسلام فلاصلاح عندهم لأمور دنياهم. وأن العرب لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه في الدنيا إلا بالإسلام الحنيف والتزامهم نهجه وطريقه، فإذا ما تخلوا عنه فسرعان ما يرتكسوا ويتخلفوا.
يقول في مقدمته تحت فصل “في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”:
والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة، وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة.
فقلما تجتمع أهواؤهم: فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم، لإظهار الحق ثم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهىء لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما يتطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإن كل مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدم أ.هـ. (14)
وقال تحت فصل آخر بعنوان:
“في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك”:
والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم لشظف وخشونة العيش، فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش. ورئيسهم محتاج إليهم غالب للعصبية التي بها المدافعة فكان مضطراً إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم. وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته، وأيضاً فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة، والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم، ولربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد، فلا يكون ذلك وازعاً، وربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد، واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك، ويقع تخريب العمران، فتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض، فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا، شأن الفوضى كما قدمناه. فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك، وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة، وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا أو باطنا، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم وقوى سلطانهم. كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل عمر كبدي يعلم الكلاب الآداب. ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى فقرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الإنقياد وإعطاء النصفة فتوحشوا كما كانوا، ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم.
ولما ذهب أمر الخلافة وامحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم، وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك، ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك، ثم مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس. لكن بعد عهدهم بالسياسة بما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة. وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد. فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه. والله يؤتي ملكه من يشاء أ.هـ. (15)
وقال تحت “فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب”: والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقاً وجبلة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران، ومناف له، فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك. والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه، لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم أ.هـ. (16)
قلت:
وكان لدولة العرب والإسلام في زمانه صولة وجولة لا في المغرب فحسب، بل وفي المشرق أيضاً، وقد تنقل ابن خلدون بين أرجاء الوطن الإسلامي فكان في حضرة سلطان المغرب أبي عنان حيث ألحقه بمجلس العلماء عنده سنة 755هـ حتى أصبح كاتبه ويوقع بين يديه. ثم سافر إلى القاهرة ووفد على الملك الظاهر برقوق حيث كان الأخير ملكا على مصر والشام آنئذ.
فأكرم وفادته وجعله على القضاء في مصر، إلى أن مات فيها رحمه الله تعالى الرحمة الواسعة وذلك سنة 808هـ . أ.هـ.
ذكر ابن خلدون ما ذكر والعرب في عزهم وسلطانهم ومنعتهم، فكيف به لو عاش في زماننا وماذا سيقول عن غلبة العجم علينا؟ ورأى الكثير من أبناء العروبة والإسلام لا يعرفون لأنفسهم تاريخاً مجيداً ولا حضارة عظيمة عملاقة، ولا سؤددا ما بعده ملك أو سؤدد؟.
وحري بالعرب أن يعودوا ويثوبوا إلى الإسلام فبه يعزون وبسببه تنتظم أمور حياتهم في كل الجوانب، وتلقى عليهم به المهابة فيحسب لهم عدوهم ألف حساب وحساب، وبنصرهم لدين الله ينصرهم ربهم ويثبت أقدامكم. (17)
دواعي الإصلاح في المجتمعات العربية
مما لا شك ولا ريب أن دواعي الإصلاح في الوطن العربي كثيرة ومتعددة، غير أننا من الممكن أن نقسمها قسمين:
الأول: دواعي دنيوية مادية
الثانية: دواعي دينية إنسانية
هذان قسمان قد يبدوان لأول وهلة مختلفين أو شيئين متغايرين، لكن في الحقيقة في جوهرهما شيء واحد، لأن الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة عبادة وسلوك. حيث الإسلام كله رسالة إصلاح ورسالة تقويم وتعديل مسار للبشرية جمعاء. ومن عمل للدين سيقوده ذلك لا محالة للعمل للدنيا. وكما أسلفنا في صفحات سبقت لم يصلح حال العرب ولم تصلح دنياهم إلا بعد صلاح دينهم “فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا”. (18)
وسيكون حديثي هنا في هذا السياق. غير أنني سأحاول الفصل بينهما بخيط دقيق لأنه من الممكن أن نجزأ هذا البحث إلى هذين الجزئين من باب الترتيب العلمي للمادة، ومن باب التنظيم لمادة البحث من الزاوية المعرفية والتربوية.
إذ من الممكن القول: إن هناك فصلا بينهما، أو هناك تداخل واشتراك. فإذا ما فصلنا بينهما نقول:
الإصلاح في المجتمعات العربية إصلاحان:
الدنيوي: ويكون ذلك في جوانب متعددة ومتنوعة، منها:
1-الجانب السياسي
وهنا لا نتعرض للحكام أو السياسيين على وجه التحديد، لكننا نتعرض للوضع السياسي العربي المترهل والضعيف بحكم الواقع العربي المرير الذي لا نحسد عليه. حيث نعاني من تفرق للكلمة وتشتت للشمل، وعدم وحدة الصف، فترانا مختلفين في كثير من القضايا والطروحات، ولسنا على قلب رجل واحد، وبالتالي يصاب موقفنا السياسي بالضعف والهوان، فتجد المنظومة الدولية لا تحسب للعرب الحساب الكبير، وقد يضرب بآراء العرب في الأمم المتحدة بعرض الحائط، ولا يستطيع الموقف العربي السياسي من فرض ما يريد أو يشاء، بل وغير قادر على الضغط حتى لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة التي هي في صالح قضاياه. بل قد تجد الموقف السياسي في بلد من بلدان الوطن العربي مقسوما ومجزأ نظراً لانقسام الرأي العربي السياسي العام فينعكس ذلك بالسلب على الدولة العربية ذاتها. وما لبنان إلا مثل من الأمثلة ونموذج لما نقول.
ومن هنا وحيال الموقف العربي المحزن تجد الجامعة العربية نفسها مكبلة الأيدي ولا تستطيع الحراك صوب وحدة الموقف العربي، كما تجد الجامعة العربية نفسها مسلوبة الإرادة ومحدودة الإمكانات والتصرفات، فتقف موقف العاجز حيال الكثير من القضايا. ولهذا نجد أمينها العام الأستاذ عمرو موسى يهدد بالإستقالة أو يتوعد باللاعودة لأمانة الجامعة العربية نظراً للموقف السياسي العربي المؤسف والمحزن.
لدرجة أن البعض يتساءل بتهكم وسخرية قائلا: هل توجد جامعة عربية؟ وبعضهم يقول مستهزءاً: لقد ماتت الجامعة العربية ودفنت في الثرى.
2- الجانب الإقتصادي
من المعروف أن العالم العربي ليس أمام سياسة اقتصادية مشتركة، فنحن نفتقر في مجتمعاتنا العربية إلى المنظومة الإقتصادية المشتركة، وليس لدينا سوق اقتصادي مشترك كما الحال لدى دول أوروبا في سوقها المشترك. وليس لدينا سياسة التوزيع العادل للثروات. فتجد من المجتمعات العربية من هي متخمة بالمال، ومنها من هي فقيرة وشعبها يفتقر إلى الحد الأدنى من العيش الكريم. ومما لا ريب أن هذا خلل في السياسة الإقتصادية، كما أنها سياسة لا تكاملية فيها. إذ تبقى والحالة هذه الشعوب الغنية غنية والشعوب الفقيرة فقيرة. في حين هناك من الشعوب الفقيرة من حيث المال من هي غنية بالثروات والعقول البشرية وليس لديها المال الذي تستطيع من خلاله أن تتطور وتتقدم. كما أن وطننا العربي يفتقر إلى الخطط الإقتصادية في مجال التطوير والتنمية المستدامة، مما يجعل الإقتصاد العربي اقتصادا هشا ضعيفاً، لا يقدر على المنافسة في السوق الدولي، ولا يستطيع الصمود أمام السياسات الإقتصادية الدولية، ومن غير الممكن أن ينهض الإقتصاد والحالة هذه النهضة المطلوبة التي تجعل من الوطن العربي بكله وطنا غنياً قوياً قادراً على الصمود وقادراً على التحدي والمنافسة الشريفة. فوطننا من هذه السياسات فقير وضعيف، ونحن في أمس الحاجة إلى سياسات الإصلاح في هذا الجانب الهام من جوانب الحياة المادية، سيما في ظل الظروف المعاصرة من سياسات انفتاح العالم بعضه على بعض وفي ظلال سياسات العولمة المعاصرة، والمنافسة القوية في الأسواق العالمية والتجارة الدولية والبينية. وكذلك الإتحادات القائمة كالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. فإن ما يؤسف له أن تكون مجتمعاتنا مجتمعات استهلاكية لا مجتمعات منتجة وليس لديها الإكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات أكثر من اعتمادها على الأجنبي والمستورد والمصنع خارجياً، ومما لا يخفى في هذا المضمار وسواه أن سياسات التفكك والتفرق ليس من ثمارها إلا الضعف وانحسار القوة وذهاب الريح.
3- الجانب العلمي
إن الحديث عن هذا الجانب حديث محزن مؤلم للنفس حيث التخلف العلمي الكبير في وطننا ومجتمعاتنا العربية سواء أكان ذلك في جانب التكنولوجيا أو التقنيات أو الصناعات بمختلف أشكالها وأنواعها. وفي آخر التقارير والمعايير الأكاديمية والبحثية التي خضعت لها جامعات العالم لم تكن جامعة عربية واحدة ضمن قائمة الخمسمائة المميزة في جامعات العالم. حتى جدلاً لو كانت هناك جامعة عربية كجامعة القاهرة أو الإسكندرية فهذه نسبة ضئيلة جداً لا تكاد تذكر. ويكفي أن نعلم أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في وطننا العربي لا تتعدى نسبة 1% من ضمن نسب الإنفاق الإجمالي.
ومما يؤسف له جداً أن ثلث الوطن العربي أميون لا يقرأون ولا يكتبون (19). فإذا كان ثلث مجتمعاتنا العربية أميين فكيف لهذه المجتمعات حينئذ أن تتقدم وتتطور وتتمكن من اللحوق بركب المجتمعات المتحضرة والمتمدنة ودول العالم الأول؟ ففاقد الشيىء لا يعطيه. وإذا ما ابتلي الإنسان بالجهل فلن يجد أمامه من فرص للتقدم والرفعة والسمو.
العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم
فنحن كأمة عربية في أمس الحاجة للإصلاح في جانب التعليم وإثراء العقول بالمعرفة ومحاولة التغلب على كل سياسات الجهل ومقاومة سبل التجهيل كافة. ومن أولى منا كأمة أول ما نزل من كتابها السماوي في الرسالة الخالدة كلمة ولفظة “إقرأ”؟ فأمتنا أمة “إقرأ” وبالتالي فإن من العجب العجاب أن تصاب بالأمية والتخلف وديننا دين العلم والمعرفة. وهذا فيما إذا أخذنا بعين الإعتبار أننا كنا سادة العالم ورواد المعرفة والعلم. ولم تترك أمة من الأمم من المؤلفات والمصنفات والمخطوطات ما تركته أمتنا العربية والإسلامية.
ويكفينا دلالة على ذلك أن مسجداً واحداً في قرطبة، أو مكبتة واحدة كانت في هذه الحاضرة العربية الإسلامية كان فيها مصنفات ومؤلفات أكثر من مكتبات أوروبا مجتمعة. ولم تنهض أوروبا إلا من خلال ما أخذته عن أمتنا العربية الإسلامية في جامعاتنا وحواضرنا. وقد استطاعت أوروبا أن تنقل حضارتنا إلى مجتمعاتها من خلال الوفود والبعثات العلمية التي كانت تأتي إلى حواضرنا وجامعاتنا ومكتباتنا. فأخذوا عنا ونسخوا الكثير من مصنفاتنا، بل وأخذوا قسماً كبيراً منها إلى بلادهم ومدنهم. وكان يجلس الواحد منهم أو الجماعة مدة طويلة في مكبتاتنا يقرأ فيها وينسخ عنها سواء أكان ذلك عن طريق صقلية أو الأندلس أو بغداد أو القاهرة أو فاس. (20)
الحديث هنا يطول جداً غير أننا نكتفي بهذه العجالة نظراً لطبيعة البحث الذي بين أيدينا.
ب- دواعي الإصلاح في الجانب الديني
في اعتقادي لربما هذا الذي هدف إليه المؤتمر الموقر بحكم أن فلسفة عقد المؤتمر هذه وجهتها، وهو مؤتمر ذو توجه وصبغة دينية بحتة وهو تحت عنوان “التصوف منهج أصيل للإصلاح” والتصوف خط ديني محض لا دنيا فيه: ولذلك لا بد من الحديث عن جانب الإصلاح من الزاوية الدينية. ومن هنا نقول بأننا من هذه الزاوية في أمس الحاجة للإصلاح في جوانب متعددة، منها:
1- جانب العلم الشرعي
من المعروف أن أكثر ما يضع الإنسان على جادة الحياة القويمة، والحياة الرتيبة، وأكثر ما ينضج الإنسان ويجعل منه إنساناً واعيا فاهما عاقلا حكيما حصيفا إنما هو العلم. ونحن معشر المسلمين لن ندرك أهمية ديننا وعظمة رسالتنا والتعرف على عقيدتنا وأحكام الحلال والحرام فيها وما يجوز منها وما لا يجوز، وما هو مطلوب منا من الجانب العقدي والديني إلا إذا كنا على درجة عالية في فهم الإسلام ومبادئه وأحكامه. من هنا أمر الإسلام بالعلم وحض عليه وجعل لأهله شرفا لا يدانيه شرف، وجعل للعلماء مكانة مرموقة ومتميزة سيما علماء الشريعة.
قال الله تعالى: “فاعلم أنه لا إله إلا الله والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط”. (21)
قال العلامة القرطبي عند هذه الآية:
في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: “وقل رب زدني علما”. فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيد من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم: “إن العلماء ورثة الأنبياء”. وقال: “العلماء أمناء الله على خلقه”. وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير أ.هـ. (22)
وما ذاك إلا لأهمية هذا النوع من العلماء تحديداً، وذلك لضرورتهم في بيان الشريعة وعقائدها وعلومها وأحكامها وفقهها وحلالها وحرامها، فلولا هؤلاء العلماء وإلا كيف للناس أن يفهموا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ويقعدوا القواعد ويجتهدوا ويستنبطوا الأحكام ويستخدموا القياس، ويفتوا في المستجدات من المسائل، ويجددوا للناس دينهم، ويواكبوا كل عصر وزمان فيما يتعلق بالفقه والفتاوى في مصالح العباد ومعاشهم، ويجعلوا من هذا الدين صالحاً لكل زمان ومكان؟
فنحن بحاجة ماسة لعلماء في الشريعة الإسلامية ليوضحوا كل هذه المسائل والقضايا ذات الصلة بالإسلام الحنيف.
ولا بد من النأي عن حمل الإسلام حملا عاطفيا بعيدا عن القواعد والأصول حتى لا نقع في أخطاء بحكم أن الذي يحمل الإسلام حملا عاطفيا بعيدا عن العلم الشرعي الأصيل يقع في أخطاء فكرية جسيمة، وكل الذين حملوا الإسلام في الزمن المعاصر ووقعوا في أخطاء فادحة وأوقعوا المجتمعات العربية والإسلامية إنما هم كلهم أو جلهم ليسوا من علماء الشريعة، فقد تجد فيهم المهندس والطبيب والكيمائي والصيدلاني والأديب ولكنهم ليسوا بعلماء في الشريعة الإسلامية فمن هنا نجد أحدهم قد كفر الناس والمجتمعات، ومنهم من كفر الحكام والأمراء وهم ليسوا كذلك، فوقعت مجتمعاتنا في فتن جسيمة لها أول وليس لها آخر.
وبالتالي فنحن في أمس الحاجة لنشر هذه العلوم الشريعة بفتح كليات للشريعة ونشره في الأوساط المجتمعية العربية والإسلامية.
ونحن هنا لا نقلل في الوقت نفسه من قيمة العلوم الأخرى، بل نحن بحاجة ماسة لتلك العلوم سيما ما هو ضروري للحياة البشرية، بل طلب العلوم بوجه عام في حق الأمة فرض كفاية. وهكذا كان حال أمتنا العربية والإسلامية طيلة تاريخ حياتها. ولكن العلوم الشرعية هي الأصل والأساس لدى أمة الإسلام.
2- الجانب التربوي
إن سياسات الإصلاح في هذا الجانب لتعد وتعتبر من أهم سياسات الإصلاح المجتمعية في الوطن العربي، حيث تنحدر في مبادئها من العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي المستنير، وتنتمي إلى ثقافة وتاريخ وحضارة تتميز عن سائر الثقافات والتواريخ والحضارات. فالشخصية المسلمة والمجتمع المسلم – وذاك هو المجتمع العربي أيضاً- له سمات يعرف بها وله منهج مختلف عن سواه من المناهج العقدية والأخلاقية والسلوكية والتربوية. ولهذا لا بد من أن تبقى المجتمعات ذات الصلة بالإسلام وذات السمة الإسلامية متميزة بعقيدتها الربانية وبمبادىء دينها الحنيف، وبأخلاقها وسلوكها القويم، لا بد من أن تبقى هذه المجتمعات محصنة وقوية، لا يصح بحال أن تنهدم الجدر أو ينهدم السياج الذي يحيط بهذه العقائد والمبادىء والأخلاقيات والسلوكيات التربوية. لا يصح أن نسمح بهدم الأسرة المسلمة أو بتعريضها للخطر الداهم، أو بغزوها مما يتناقض ومبادىء الدين الحنيف. سيما في هذا الزمن وعلى وجه التحديد في عصر التكنولوجيا المعاصرة والفضائيات التي انتشرت كانتشار النار في الهشيم، ناهيكم عن الإنترنت وما فيه من مشكلات وويلات وبلايا. فقد غدا العالم وكأنه قرية أو مدينة واحدة. لم يعد شيء في ظلام أو خفاء، وانفتح الناس بعضهم على بعض وغدت المجتمعات الإنسانية مجتمعاً واحداً بحكم ثورة الإعلام والاتصالات والتكنولوجيا المعاصرة . وأصبح كل شيء في متناول اليد وتحت السمع والبصر. فنحن والحالة هذه في أمس الحاجة إلى اليقظة والحذر وتعدد سياسات الإصلاح والتوجيه التربوي الحثيث، وضرورة التحصين الشديد لأسرنا ومجتمعاتنا، والمحافظة كل المحافظة على مبادئنا وسلوكياتنا الحميدة وأخلاقنا وقيمنا الرشيدة. وقد أصبنا نحن المجتمعات عربية وبكل أسف بداء التقليد الأعمى للغير سيما للغرب المسيحي والمجتمعات الغربية من أوروبية وأمريكية، ومما لا شك أن هناك مفارقات كبيرة في موازيننا وموازينهم، وقناعاتنا القائمة على أسس الإسلام الحنيف وقناعاتهم القائمة على أسس الديمقراطية والحرية التي بلا حدود وفي كثير من الأحيان بلا ضوابط. فإن مما يؤسف له أن الشذوذ في الغرب غدا موضة وسلوكا لدى البعض، وتجد من يدافع عنه ويقنن له القوانين لحمايته والذود عن حياضه. وقد نشرت الصحف قبل فترة وجيزة عن أحد وزراء الخارجية لإحدى دول أوروبا أنه شاذ واحتفل بزواجه من رجل، وحضر مراسم هذا الزواج الشاذ لفيف من الأهل والأصدقاء، وقد قام عمدة العاصمة لهذا البلد الأوروبي بتهنئته والمباركة له. وقد قالت الصحف بأن هذا العمدة هو شاذ أيضاً (23). وهذا السلوك المشين والسيىء جداً أصبح سلوكاً عادياً ومقبولاً في المجتمعات الغربية. كما أن هناك انفتاح الجنسين على بعض والعلاقات الجنسية غير المنضبطة. وكل ذلك غير مشروع في ثقافتنا ومبادىء ديننا وأخلاقياتنا كعرب ومسلمين. وهناك الكثير الكثير مما يتعارض ويتناقض مع مبادىء ديننا الحنيف وثقافتنا الإسلامية وعادتنا وتقاليدنا والتي في أكثرها تستند إلى عرف شرعي أو أصالة حميدة أصلها نصوص شرعية من كتاب أو سنة، أو اجتهاد قائم على دليل شرعي. فالشاهد أننا لا نتفق مع بعض الأخلاقيات الغربية أو السلوكيات وهي متناقضة تماماً مع نصوص الكتاب والسنة. فيتوجب علينا أن نبقى حذرين متيقظين لكل هذه السلوكيات والأخلاقيات وبعض أسس التربية ومناهج المربين في تلك المجتمعات أو سواها من المجتمعات الإنسانية ذات التناقض والتعارض مع كتاب ربنا وسنة نبينا. لا بد من الحيلولة دون تسريب المبادىء الفاسدة والأفكار المنحرفة والعادات والتقاليد الضارة إلى مجتمعاتنا والعمل على الفلترة لكل ما يدخل إلينا من سوانا من المجتمعات الإنسانية الأخرى المغايرة لعقائدنا ومبادئنا. لا بد من الإبقاء على المناخات النظيفة لبيئاتنا من كل دخيل سىء ضار. ونحن هنا بدورنا يقع على كواهلنا مسؤوليات جسام جداً في المحافظة على مجتمعاتنا من أن يصيبها التسمم أو الأمراض التي قد تودي بها.
فلا بد من عمل برامج توعية للناشئة ولأفراد المجتمع ومؤسساته بوجه عام، ولا بد أيضاً من تكثيف التوجيه الأسري والسهر على إعداد الأبناء والعمل على تربيتهم التربية المثلى والتربية القويمة، وضرورة مراقبتهم وتفقد ظروفهم وأحوالهم، ومعرفة أصدقائهم وخلانهم ومعارفهم.
كما لا بد من عقد ورشات عمل تربوية بين الفينة والفينة، والإهتمام بالمناهج الدراسية من الجوانب التربوية والأخلاقية والتركيز فيها على ضرورة إخراج المواطن الصالح الذي يتحمل مسئولية وأمانة، والعمل على نشر الوعي الديني والثقافة الإسلامية، وضرورة التركيز على تبني الإسلام عقيدة وشريعة ونظريا وعمليا، وسلوكا وأخلاقا. لأن الفكر الديني والعلم الشرعي خير ما يحصن به الناشئة وتحصن به المجتمعات العربية والإسلامية من كل الأمراض والمضار والمفاسد الوافدة، والمنهج التربوي الديني أقوى سلاح تتسلح به مجتمعاتنا وأمنع حصون تتحصن به في ظلال هذه الظروف القاسية والعصيبة. إذ العقيدة سلاح مضاء لا يضاهيه سلاح، وحصون ترجع عنها الجيوش الجرارة منهزمة مقهورة. ومن هنا فإننا نشكر “المركز العلمي الصوفي بأكاديمية الإمام الرائد لدراسات التصوف وعلوم التراث” على عقد هذا المؤتمر، وعلى هذه المبادرة والفكرة الرائدة، والإهتمام بهذا الجانب، وكلنا اعتزاز بهذه الجهود المخلصة والحكيمة حيث فكرت إدارة هذا المركز فأحسنت التفكير ودبرت فأحسنت التدبير، واختارت ما نحن بحاجة إليه وضروري لمسيرة حياتنا المعاصرة، فكلنا تثمين لهذا المؤتمر ولهذه الجهود التي جاءت في زمن حرج وصعب، متمنين لمركزكم الزاهر كل تقدم ورفعة واستمرارية، داعين لكم بكل توفيق وسداد ورشاد.
الجانب الإجتماعي
إن الحديث عن الجانب في المجتمعات العربية ودواعي الإصلاح فيها كثير ومتشعب ومتعدد الوجوه. غير أنني سأحاول جهدي الإختصار، حتى لا أخرج في نهاية المطاف عن حدود البحث العلمي المطلوب مني المؤتمر لا يستحسن أن تزيد صفحاته عن خمس وعشرين صفحة في الحد الأعلى، وإلقاء البحث في حدود عشرين أو خمسة عشر دقيقة.
وهنا لا بد من الحديث عن بعض القضايا الخطيرة والملحة التي تعصف ببعض أفراد مجتمعاتنا، ولها آثار سلبية جداً على النفس والعقل والجسد، والثقافة الدينية والتربية الإسلامية هي خير وأقوى ما يقف في وجه هذه الأخطار والسلوك المدمر والمفتت للمجتمع على الصعد المختلفة، نذكر من هذه الأخطار:
1- آفة المخدرات بأنواعها الحشيش، الهرويين، الكوكائين ….. الخ.
إن ما يؤسف له أن نجد في المجتمعات الإنسانية بوجه عام ظاهرة تعاطي المخدرات نظراً لتقدم الإنسان العلمي والصيدلاني والطبي، وسهولة انتشار مثل هذه المستحضرات بسبب تطور الإنسان المعاصر وتميزه بكثير من المعارف والعلوم. فبدلا من أن يضع الإنسان هذه العلوم وهذا التقدم في سبيل إسعاد البشرية وعيشها عيشا رغيداً فيه الرخاء والهناء، ومقاومة الأخطار والأمراض التي تتهدد الإنسان يضع البعض منهم هذه العلوم والخبرات في سبيل إشقاء البشرية وتعاسة أفرادها، فيسخر ذلك في الشر وتتفتق ذهنيتهم عن صناعات تدميرية، سواء أكان ذلك في جانب السلاح بأنواعه السيء من نووي إلى كيمائي إلى جرثومي، وغير ذلك من أنواع الأسلحة الفتاكة كالقنابل العنقودية وغيرها، إلى جانب التصنيع في مجال المعامل الكيمائية الضارة، وما المخدرات إلا نموذج ومثل لهذه الصناعات السيئة والضارة. ومما لا شك أن كل دول العالم تحارب هذه الصناعة السيئة جداً وتضع لها القوانين والنظم التي تحد من انتشارها أو تعاطيها أو الإتجار بها، غير أن بعض الدول كهولندا مثلا وبكل أسف لا تمنع هذه الظاهرة، ولا تحاربها من الناحية القانونية والجزائية، بل تسمح بها تعاطياً وتجارة، وهناك دول تزرع الحشيش بصورة كبيرة وتجارية، وفي هذا مدعاة لترويجها والاتجار بها وتسويقها هنا وهناك، وقد غزت هذه الآفة بكل أسف مجتمعاتنا العربية وتجد من يتعاطاها ويتجربها وينشرها في أوساط الشباب. وهذه ظاهرة لا بد من الوقوف في وجهها قانونياً وتربوياً. فالقانون مجاله الدولة والمحاكم الجزائية. أما الأمور التربوية فهي لأمثال مؤتمرنا، إذ له ولسواه من المؤتمرات حظ وافر في هذا المجال، وذلك من خلال نشر الأحكام الشرعية، والتركيز على التربية الدينية، ونشر تعاليم الشرع الحنيف ومبادىء الدين القويم، وإيلاء الجانب الديني أهمية كبرى في مجال إعداد الناشئة وتربية الأجيال لأن التحصين الديني –كما قلنا قبل قليل- أكبر وأقوى تحصين. فهناك على سبيل المثال مرض الإيدز، فإن كل الأوساط الطبية تجمع على أن أكثر ما يقاوم الإيدز إنما هو الخلق الديني أي الطب الوقائي حيث الإسلام يحرم العلاقات غير الشرعية خارج إطار الأسرة.
من هنا يظهر جانب وداعي الإصلاح الإجتماعي القائم على أساس الدين ونشر الوعي الشرعي، ومن هنا تأتي أهمية هذا المؤتمر الموقر ونظيره من المؤتمرات المشابهة والمماثلة.
2- محاولة تفكيك الأسرة والدعوة إلى التفلت الإجتماعي
وهذه آفة أخرى تضاف إلى تلك غير أن هذه الآفة في الجانب النظري والسلوكي، وتلك في جوانب لها علاقة مباشرة بالجسد وأخطار الأمراض التي تهدده، وماله علاقة بتدمير الروح والعقل.
لقد ظهرت في الآونة الأخيرة نشاطات –وفي أغلبها نسوية- وآراء بل وسلوك في مجتمعاتنا العربية مقلدة في ذلك المجتمعات الغربية وذلك في أمور كثيرة، منها: خلع المرأة لحجابها والدعوة إلى السفور، والتمرد على قوانين المجتمع والأسرة، والقفز عن سلطة الرجل في البيت، والمناداة بضرورة حرية المرأة في علاقاتها الإجتماعية والعاطفية، والمجاهرة بأعلى الأصوات بأن الإسلام لم ينصف المرأة، ومجتمعاتنا التي تنحدر من ثقافات شرعية وإسلامية تهضم حقوق المرأة وتنقصها حقها، منها: لماذا لا تتساوى المرأة مع الرجل؟ ولماذا المجتمعات العربية مجتمعات ذكورية؟ ثم تتقول هذه النشاطات النسوية افتئاتا أيضا على الإسلام وافتراء على هذا الدين العظيم من أن الإسلام لم يسو بينها وبين الرجل في الميراث. ومنها كذلك لماذا أباح الإسلام تعدد الزوجات؟ وفي هذا ظلم للمرأة.
وكل ذلك مما لا ريب أنه ظلم لهذا الدين الحنيف، وعدم فهم لفلسفة الإسلام في النظم والقوانين. ولو أردنا تفنيد هذه القضايا والمسائل والإعتراضات أو التساؤلات والردود عليها لأخذ منها شوطاً كبيراً ولاحتاج هذا إلى مجلد كبير. غير أننا نقول في سياق هذا البحث لهذا المؤتمر الموقر، بأننا بحاجة ماسة لتحصين الجيل حيال كل هذه الشبهات أو الترهات وبتعبير أشمل، نحن بحاجة ماسة لنشر الثقافة الإسلامية وفهم الشريعة الإسلامية فهما سليما دقيقاً شاملاً، كي نستطيع أن نقف في وجه هذه الفئات والدعوات الهدامة لأسرنا ومجتمعاتنا.
ونحن هنا بحاجة إلى أمرين:
أ-أن نناقش هذه الفئات وأصحاب هذه الدعوات في مثل هذه الأفكار والسلوكيات الدخيلة، حتى لو كانت لديهم هذه الأفكار شبهات متعلقة في أذهانهم، فعلينا أن نقنعهم إقناعاً علمياً وفكرياً خطأ هذه الأفكار، ولماذا الإسلام على صواب فيما ذهب إليه في هذه الآراء والأحكام، والحكمة من كل ذلك، ومحاولة الوقوف على العلل أو الأسباب إن أمكن في مثل هذه الأحكام أو التماس الحكم الجليلة –كما أسلفنا- فيما وراء هذه الآراء لدى الإسلام الحنيف.
ب- إن لم نصل مع هذه الفئات إلى نتيجة مرضية من خلال الحوار البناء والهادف، وأتيناهم من كل باب فلم نفلح في إقناعهم، لأن هناك أناسا لا يريدون أن يقتنعوا مهما كانت حجتك قوية وناهضة أو مقنعة “ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك” (24). فإن أعيتنا السبل في إقناعهم فلا بد أن نقف في وجوههم صداً وثنياً لهم عن حمل أو إفشاء هذه الآراء التي تتناقض وشرعنا الحنيف وتحيد في جوهرها وأغراضها عن الفكر الإسلامي الأصيل. على أن يكون كل ذلك بوعي وحكمة وسداد رأي.
جـ- تثقيف الجيل بثقافة الإسلام الأصيلة وتوعية جماهير مجتمعاتنا حيال هذه الأخطار التي تهدد أفرادنا ذكورا وإناثاً وتهدد بالتالي أسرنا ومجتمعاتنا، وأن ننشر في أوساطنا المجتمعية الوعي الديني والوعي الشرعي ومعرفة أحكام ديننا الحنيف، وإقامة الحجج للناس على صحة هذه الأحكام وعظمة حكمتها، وأنها هي الحق وما سواها هو الباطل “فماذا بعد الحق إلا الضلال”؟ (25) وهذا لا يتأتى إلا بالعلم والمعرفة، والوعي، والتنبه لكل هذه الطرائق الخبيثة والسيئة والأفكار الدخيلة، والتثقف بثقافة الآخر رغم أنها تتناقض والشريعة الإسلامية. والتبيين للناس أن ذلك ردة أو جنوح أو خلل في الفكر، أو خطأ وخطل جسيم لا يجوز لمسلم أن يتبني مثل هذه الأفكار ويدعو لها ويروج لهذه السموم القاتلة للعقل والروح والفكر النظيف. وتبصير الناس على كثير من الدعوات الهدامة في التاريخ العريض الطويل منذ فجر الإسلام وإلى يومنا هذا، والتي أريد للإسلام من خلالها أن يحارب ويجتث من العقول والنفوس. فانتهت بحمد الله هذه الدعوات إلى بوار وهزيمة وبقي الإسلام في النفوس والمجتمعات قوياً ثابتاً راسخاً رسوخ الجبال عصياً على التآكل أو الضعف أو الإنحسار أو الإنتهاء بحمد الله سبحانه. ومن أواخرها وأقواها الفكر الشيوعي والإلحادي الذي عصف فترة ببعض نفوس المسلمين حيث تبنى هذا البعض هذه الأفكار وقاتل دونها ودافع عنها وذاد عن فلسفاتها. ثم هزمت واندحرت وبادت بفضل الله جل شأنه. فما خاب ولا خسر ولا هلك إلا من حمل هذه الأفكار وتبناها وروج لها ومات عليها والعياذ بالله.
3- سياسات تجهيل المجتمعات العربية بالفكر الديني وعلوم الشريعة الإسلامية ومحاولات الانتقاص من قيمة حملتها وأصحابها.
ومما لا شك أن هذه دسائس أخر تضاف إلى تلك في محاولات إبعاد الناس عن الإسلام ووضع الحواجز ما بين الأجيال المعاصرة وديننا الحنيف. لأن الناس إن جهلت الإسلام وجهلت أحكامه، وبعدت عن هذه الثقافة الأصيلة، وشوه حملتها وأصحابها، أو أفقدوا قيمتهم التي أراد الله لهم أن تكون. وباتت هذه العلوم بلا قدر ونظر إليها نظرة الدون، وبالتالي لا يؤبه حينئذ بها وبأصحابها، فمما لا شك ولا ريب أن ذلك مضعف لمسيرة الإسلام، وفي ذلك تغييب للإسلام عن الواقع بطريقة غير مباشرة، ويصبح الناس في منأى عن هذا الهدف ألا وهو بقاء الإسلام قوياً في النفوس وفي المجتمعات، وبالتالي يعود الإسلام بأحكامه ونظامه وثقافته إلى واقع الناس ويحكم فيهم وفي سلوكهم ومنهجهم في حياتهم. وهذا مما لا يراد للإسلام الحنيف من أعدائه وأعداء أصحابه وحملته. فإذا همش علماء المسلمين، ولم ينط بهم الدور الذي يجب في إنهاض الأمة وإعادة القوة لها وتوجيهها التوجيه الذي ينسجم ورسالة الإسلام، ويصدرون في تربيتهم للأجيال وتثقيفهم لهم وإعدادهم الإعداد اللازم عن الثقافة الإسلامية والعلوم الشرعية وعقيدة الإسلام الحقة، فإذا أفقد علماء الأمة هذه القوة وهذه الطرائق والأساليب في التوجيه والإعداد للمجتمعات ولم يمكنوا من تأدية هذه الرسالة على الوجه المطلوب، وحيل بينهم وبين المجتمعات وذلك بتجفيف منابعهم في المجتمع من خلال تجفيف منابع الثقافة الإسلامية وعلوم الشريعة الإسلامية، وإفقادهم لهذه المكانة والقوة التي منحها رب العزة لهم فإن ذلك مضعف لا محالة للإسلام ذاته. لأن المبادىء إنما تقوى بأصحابها وحملتها وتضعف بتغييب أهلها وأصحابها والمعتقدين لها.
من هنا حينما جاء الإستعمار إلى بلاد الإسلام حارب هذه العلوم بطرق مباشرة وغير مباشرة بأن قدم العلوم الأخر عليها وجعل لهذه العلوم ولمن يتعلمها القيمة والقدر الكبيرين في المجتمع، واعتنى بها وبأصحابها في المجتمع. وفي المقابل أهمل قصداً العلوم الشرعية ولم يأبه بحملتها وأصحابها ولم يجعل لهم قيمة وقدراً، ولم يولهم اهتماماً في الوظائف والمناصب الرفيعة في الدولة والمجتمع. ولا يغيب عنا ما فعله الإستعمار الفرنسي في الجزائر من محاربته حتى للكتاتيب، بل واللغة العربية حتى فرنس الجزائر، وحاول إقصاءها عن الإسلام والعربية، وإحلال الثقافة واللغة الفرنسية مكان ثقافة الإسلام والثقافة العربية. كل ذلك كي يبقى الشعب الجزائري في منأى عن الدين الحنيف واللغة العربية والتي تنفخ فيهم روح الصبر والمقاومة والثبات على المبدأ.
كما ساد في الوطن العربي في فترة من فترات الضعف والتراجع الدعوة إلى العامية بعيداً عن اللغة العربية الفصحى لإضعاف هذه اللغة كونها لغة القرآن الكريم، حيث نزل الكتاب بلسان عربي مبين.
إلى هنا في هذا البحث على وجه الإجمال والإختصار سائلاً المولى تبارك وتعالى أن يعنني على تطويره وتوسيعه كي أفرده بمصنف ومؤلف مستقل، وعسى أن يكون قريباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.