مقدمة
حالة العرب الإجتماعية قبل الإسلام
حينما نتحدث عن موضوع وشأن تقوية الروابط بين أبناء الأمة الإسلامية، وأنها روابط محكمة وقوية وثابتة، لا بد والحالة هذه من تناول الوضع الإجتماعي لدى العرب في جزيرتهم ومواطنهم قبل الإسلام وعلى وجه الحديد لا بد من تناول تفكك وحدة العرب، وأنهم كانوا قبائل شتى وبطوناً وفخوذاً لكل وجهة هو موليها. حيث كانوا قبائل بعضهم يغزو بعضا، وقويهم يأكل ضعيفهم. إذ كانوا غاية في التفكك والضعف، ولمجرد الخلاف اليسير، أو تناقض المواقف والقناعات كانت تستعر الحروب فيما بينهم، وما حرب داحس والغبراء التي أكلت الأخضر واليابس لدى العرب إلا نموذج وشاهد على ما نقول، وهذه الحرب من الشهرة التاريخية بمكان. وهناك يوم الكلاب، وحرب بعاث والتي اشتد أوارها بين قبيلتي الأوس والخزرج. حتى حاول البعض من يهود يثرب أن يثيروها بين هاتين القبيلتين بعد الإسلام حينما رأوا منهم ألفة ومحبة وتجمعا بعد فرقة، وقوة بعد ضعف، وتماسكاً بعد فكاك. وهناك الحروب الشهيرة بين بكر وتغلب. وكان من آثار ذلك نشوء الأحقاد والضغائن بين أفراد القبائل، كما وأن تلك المجتمعات كانت تفتقر إلى الأمن والأمان، ولهذا السبب كانت العرب تحج إلى البيت العتيق في الأشهر الحرم، وتعقد الأسواق الأدبية والمطارحات الأدبية والمبارزات الشعرية في الحجاز في سوق عكاظ وذي المجاز ومجنة في هذه الأشهر، لأن العرب كانت تحرم القتال والقتل فيها، إذ كان الرجل يلقى قاتل أبيه في هذه الأوقات فلا يتعرض له. حيث كانوا يقيمون لها الوزن الكبير ويشددوا في حرمتها. بمعنى أن هذه المجتمعات بما كان سائداً فيها من حروب ومنازعات واقتتال، ووجود حالات العوز والفقر وضنك العيش، كان كل ذلك سبباً في فقدان الأمن ما بين هذه القبائل. ومن هنا قال الفاروق عليه الرضوان: لا يعرف الإسلام إلا من عرف الجاهلية أ.هـ.
قال العلامة القرطبي في تفسير قول الله تبارك وتعالى “وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم”. (1).
أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج. وكان تألف القلوب مع المعصية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين أ.هـ. (2).
وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية “وألف بين قلوبهم”:
وظاهره العموم، وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله. وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضا ولا يحترم ما له ولا دمه، حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية. وجملة (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم). مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى: أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف، لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جداً (ولكن الله ألف بينهم) بعظيم قدرته وبديع صنعه (إنه عزيز) لا يغالبه مغالب. ولا يستعصي عليه أمر من الأمور (حكيم) في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره أ.هـ. (3).
الشاهد مما تقدم أن نقول: إن وضعاً اجتماعياً من هذا النوع من غير الممكن أن يكون متحداً ومجتمعاً وبالتالي لن يكون قوياً. لأن الإتحاد دائماً يفضي إلى قوة، والتفرق والتنازع يفضي إلى ضعف ومن ثم إلى فشل.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
ومن هنا نهى الإسلام الحنيف عن التفرق والتنازع وتشتت الكلمة وبعثرة الجهود، واختلاف القلوب وتنافرها، فقال جل شأنه “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”.
والدعوة إلى الوحدة، وحدة الكلمة ووحدة الصف، ووحدة الجهود، وتوحيد الجبهات والخنادق هي دعوة قائمة على الفهم والحكمة وبعد النظر، وسداد الرأي. وهذه فلسفة فكرية وتربوية، يدعوا إليها الحكماء والعقلاء والمفكرون وقادة الرأي في المجتمعات المتعددة، سيما إن تباينت واختلفت وتفرقت. وهذه هي دعوة الإسلام للعرب في جزيرتهم وبيئاتهم منذ الوهلة الأولى أن يكونوا إخوة متحابين متعاونين، رافضين للفرقة، نابذين للتشتت، على قلب رجل واحد، فأرسى لما يحقق ذلك دعائم الصفح والعفو، ودعا إلى التسامح ونهى عن الهجران قال صلوات الله عليه: “لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام” (4).
فالوحدة أساس القوة والعزة والتمكين في الأرض. والفرقة مآلها إلى الضعف والهوان والفشل.
أهمية وضرورة الوحدة بوجه عام
للوحدة أهمية بالغة وضرورة عيش ملحة، لأن الحياة لا تقوم على الضعف ولا على التناقضات، واختلاف الرأي وتضاد المواقف. ولكنها تقوم على التعاون والتفاهم والمحبة والتسامح والتواصل بين الأفراد والمجتمعات. فللوحدة والترابط بين آحاد المجتمع الفوائد العظيمة والجليلة، منها:
1- التعاون على البر والتقوى، والتعاضد على فعل الخيرات وأداء الواجبات.
2- هي سبيل من سبل استشراء المحبة بين الناس وبث روح الأخوة فيما بينهم، ونشر المودة والتحاب وصفاء النفوس والأفئدة.
3- سبب مباشر من أسباب قوة المجتمع وتماسك أفراده ووحدة صفه، واجتماع كلمته، والوقوف صفاً واحداً أمام ما يؤلمه ويقض مضجعه.
4- بها يعز المجتمع ويضحي عصياً على سواه، ولم يعد لقمة سائغة لكل من تسول له نفسه الإعتداء عليه أو تهديد مصالحه أو الوقوف في وجه مصالحه ومنافعه.
5- تلقي عليه المهابة، فيحسب له كل حساب، ولا يجرؤ أحد للقفز عليه أو تهميشه أو إقصائه أو عدم الإعتراف به، فيحبه الصديق، ويخشاه العدو.
6- يكون المجتمع والحالة هذه قادراً على صد أي عدوان عليه، متمكناً من الدفاع عن ذاته، ومن غير الممكن أن يكون في يوم من الأيام نهباً مقسماً لأعدائه، ولا تتعرض مصالحه للخطر في لحظة من اللحظات.
7- يكون قادراً على التنمية وتطوير ذاته، والرقي والتقدم في مجالات الحياة المختلفة، فيدرأ عن نفسه غائلة الجهل والتخلف والفقر والمرض والذلة.
8- سبب رئيس في بث روح الطمأنينة والسكينة وهدوء النفس، وإضفاء ظاهرة الأمن المجتمعي والتربوي، بعيداً عن الحساسيات التي ترافق عدم استقرار النفوس، أو حين اضطراب العلاقات الإجتماعية، ولا يشعر المرء حينئذ بحسنات الرفقة أو حسن الجوار، أو ثمار اللحمة المجتمعية.
9- تحفظ المجتمع من التفسخ والإنقسام والتشرذم الذي يحول دون تقدم المجتمع وتنميته وتطويره، بل تفسخ المجتمع وتشرذمه يؤدي به إلى الإنهيار والإنتهاء وإذا لم يكن انهاء الذات فانتهاء الدور والمكانة والنفوذ.
10- تحيط المجتمع بسياج متين يحول دون وقوع المجتمع في الفتنة، أو أن تدب في أوصاله، وهذه هي الحالقة والمدمرة للنسيج الإجتماعي والمفتتة لدواعي تماسكه وقوة ترابطه وتلاحمه.
11- تحفظ الأمة أو المجتمع من الذوبان في غيره فيبقى مميزاً بين الأمم والشعوب، معتزاً بذاته وبتاريخه وحضارته ، ويحاول جاهداً أن ينهض فيما لو عثر أو كبى.
هذه بعض الفوائد الجليلة التي تترتب على الوحدة وتماسك المجتمع أو الأمة بوجه عام. وعكسها تماماً يترتب على ضعف الروابط لدى المجتمعات والأمم. إذ الفرقة تؤدي إلى التيه والضياع وضلال الطريق.
إن تآكل الروابط المجتمعية أو تفسخ المجتمع واختلال العلاقات فيه سيؤدي لا محالة إلى عكس ما تطرقنا إليه من الفوائد والإيجابيات. من هنا يأتي تحذير العلماء والعقلاء والمفكرين والساسة وقادة الرأي والتربويين من الفرقة والإختلاف المفضي إلى المنازعة والشقاق، ويحذرون من سوء عاقبة التفسخ والتنازع واختلال العلاقات وعدم وحدة الرأي والموقف، ومن سوء مصير تفكك الأمة، أو المجتمع واضطراب الآراء لدى هذه الأوساط، كما يشددون من سوء عاقبة الفتنة والإحتراب أو الإقتتال الداخلي. وهذه بلا شك نتيجة شبه حتمية لقلة التوافق والتراضي، وبعد الحوار وتآلف النفوس والقلوب، واستشراء ظاهرة الإقصاء للآخر بمجرد اختلاف في وجهات النظر، أو بسبب نظرة فئوية أو حزبية ضيقة أو فصائلية مقيتة. إذ ها هو الواقع في ظاهرة استشراء الحزبية في أوطاننا كأمة عربية إسلامية، أدت بنا في بعض دولنا ومجتمعاتنا إلى النظرة الضيقة، والشك في الآخر، والتقوقع عبر آراء وفلسفات الحزب، وبالتالي قادتنا هذه المفاهيم غير السليمة إلى الأحقاد والضغائن، ومن ثم إلى الإقتتال وإعلان الحرب.
وإلا كيف نفسر الذي يجري على أرض باكستان الشقيقة والصومال والعراق، والذي جرى وحل بالجزائر قبل المصالحة الوطنية التي أطلقها الزعيم الجزائري عبد العزيز بوتفليقه، وما هذه إلا نماذج لما نقول، وواقع معاش نأسف له جميعاً. وما هو واقع لدى أمتنا أو بعض مجتمعاتنا مثيله وصنوه في المجتمعات الأخر التي لا تعيش فلسفة الوحدة أو الإتحاد وفيها بذور الشقاق والتمزق. فسؤ الإختلاف والتنازع سيئة في أي مكان تحل فيه، ولدى أي مجتمع لا يتعاطى مع فلسفة الألفة والمحبة ووحدة الصف، ولم الشمل والتئام الكلمة. فالمجتمع أو الأمة كلما تماسكت كان مثلها مثل الحزمة التي لا يستطاع كسرها، فإذا ما تفرقت وتشتت كلمتها وشتت شملها كانت بمثابة الحزمة التي تفرقت عيداناً وكسر كل عود على انفراد. “إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
ضرورة وأهمية وحدة الأمة الإسلامية بوجه خاص
ألمحنا فيما سبق عن أهيمة وضرورة الوحدة والتآم الكلمة والترابط ما بين المجتمع أو الأمة بوجه عام. وسنتحدث عن أهمية وضرورة وحدة الأمة الإسلامية بصورة خاصة. إذ هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس ورسالتها الرسالة الخالدة التي ارتضاها الله تبارك وتعالى للناس جميعاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد سبق لي أن كتبت بحثاً بعنوان ” الحاجة إلى الإصلاح ودواعي الإصلاح في المجتمعات العربية”. وقد أشرت في هذا البحث إلى أهمية الإصلاح ودواعيه لدى أمة العرب أكثر من سواها، حيث هي نواة أمة الإسلام ولها حصة الأسد في هذه الرسالة من جهة النبوة والمعجزة في كتاب الله الخالد، “وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون”. (5) وكان إعداد هذا البحث قبل ثورات الربيع العربي بسنة تقريباً، وألقيته في أحد المؤتمرات العلمية الهامة، كان ذلك على ثرى هذه الأرض الطيبة أرض الكنانة بتاريخ 26-28/ شوال/ 1432هـ وفق 24-26/9/2011م.
فالأمة الإسلامية رسالتها خاتمة الرسائل، ودينها خير الأديان، وهو الدين المقبول عند الله سبحانه “إن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”. (6) فهي الأمة الهادية المهدية، وهي الأمة الحاكمة والشاهدة على الأمم” “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً”. (7).
كما أنها الرسالة التي تضطلع بها أمة الإسلام إذ هي آخر رسالة إلى الأرض، ومحمد بن عبد الله خاتم النبيين قال تعالى: “ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين” (8). وقال صلوات الله عليه وسلم “أنا خاتم النبيين” (9)، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة.
الشاهد من كل ذلك أن أمة الإسلام هي الأمة الناجية يوم القيامة، وهي التي تحمل أمانة الهداية والتبليغ للأمم كافة، وهي الأمة الناصحة المبينة والموصلة للناس كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب الله وسنتي” (10).
والإسلام هو الدين الحجة على الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو الدين الحق والدين القويم “ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون”. (11) وقال سبحانه: “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” (12) وقال جل شأنه: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (13). وإذا ما كان الإسلام هو الحجة البالغة على الناس جميعاً، ولا بد من أن يصل إلى كل أرجاء المعمورة، ويصل القاصي والداني وصول العلم والمعرفة ووصول الحجة والبرهان، ووصول القناعات والإيمان به، حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم، وحتى تقام الحجة عليهم، ويعرفوا ما لهم وما عليهم تجاه هذا الدين الحنيف، قال تعالى: “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً” (14) وقال جل شأنه “ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة” (15). وهذا بلا شك واجب الأمة تجاه البشرية جمعاء ” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرن بالمعروف وينهون عن المنكر” (16)، وقال جل شأنه “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (17).
ورسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتي آخرها رسالة النبي الكريم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه جاءت بتوحيد الله سبحانه ونفي الشريك والند والمثيل عنه، جاءت بتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وأن يعبد الله حق العبادة بعيداً عن أية انحرافات عقدية أو منهجية، وبعيداً عن الضلالات والبدع، وكل عبادة ليس عليها دليل ولا حجة ولا برهان. فيبقى المسار إلى الله سبحانه بعيداً عن أي عوج أو خلل أو انحراف. وهذا مراد للدين الحنيف كي يبقى حقاً كما أنزل، لا تشوبه شائبة، ولا يدخله نقص أو تحريف أو تبديل أو تشويه. وقد نعى الله سبحانه على الأمم السابقة والتي غيرت وبدلت وحرفت فيما أنزله الله على رسله الكرام.
كل ذلك يستدعي أن تكون أمة الإسلام أمة قوية عزيزة مهيبة الجانب، لديها الإمكانات والقدرات في الدفاع عن ذاتها وللذود عن حياض رسالتها، والقدرة على تبليغها إلى مشارق الأرض ومغاربها. ومن غير الممكن أن تحافظ أمة الإسلام على نفسها مكانة وسؤددا وتبقى قوية في ميادين التحدي والصراع، وبوسعها أن تبلغ دعوة الله إلى أمم الأرض قاطبة وهي ضعيفة أو متخلفة، أو فقيرة، أو غير متماسكة ولا متحدة. إذ كل هذه الواجبات تستدعي بالضرورة أن تكون الأمة الإسلامية أمة قوية عزيزة قادرة متمكنة غير هيابة ولا ناكصة على عقبيها. كل هذه الواجبات وسواها تستدعي من أمة الإسلام أن تكون على درجة عالية من التأهب والإستعداد للقيام بمهامها على الوجه الأكمل والذي أراده الله لها على الدوام. “وأعدوا لهم ما استطعتم من وقوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”. (18)
لن تستطيع الأمة الإسلامية البقاء في خندق الصمود والمقاومة والتحدي وهي متفككة وغير مترابطة، ومشتتة الوجهات والآراء، أو مبعثرة الولاءات هنا وهناك للداخل والخارج. فحينما كانت أرض فلسطين محتلة من قبل الصليبيين –واحتلال هذا القطر على أفئدة المسلمين لن يكون حاله من القضم والإحتلال وأمتنا الإسلامية قوية عزيزة، فاحتلاله مئنة على ضعف أمتنا وعدم تماسكها- كان أول ما عمله صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى في سبيل تعبأة الأمة وتقوية شوكتها وحتى تكون قادرة على مواجهة الصليبيين وتحرير بيت المقدس أن أعاد اللحمة إلى الأمة فوحد كلمتها وجمع شملها وقوى الروابط فيما بينها وجمعهم على كلمة سواء. ثم بث فيها روح الإيمان وركز على تقوى الله عز وجل والتوجه والرجعة إليه سبحانه، والعودة الصادقة إلى مبادىء الدين الحنيف. ثم بعد ذلك فكر في المواجهة مع الصليبيين ومنازلتهم ومن ثم عزم على تحرير بيت المقدس، فكان له ما أراد.
فتقوية روابط الأمة الإسلامية ومحاولة جمع كلمتها ورص صفوفها، ولم شتاتها وإنهاء حالة النزاع والشقاق فيما بينها هي الأصل في عودة القوة إلى أمتنا، وهي الأساس في تمكينها وإعادة العزة والمجد لها، وهي السبق الرئيس في النهوض من كبوتها، والإفاقة من سباتها وغفوتها.
من هنا تأتي أهمية هذا المحور، ولربما أن أهم ما يعيد للأمة الإسلامية شخصيتها وكرامتها، ويضع قدمها على جادة الخريطة الدولية والعالمية، ويجعل لها المكانة السامية والمرموقة بين الأمم إنما هو تقوية الوشائج والروابط بين أبناء هذه الأمة واتحاد دولها. وهل هناك أمة من أمم الأرض تملك ما تملكه الأمة الإسلامية من قدرة على إحكام الروابط فيما بينها؟ وهل هناك أمة من الأمم تستطيع أن تكون صفاً واحداً ويداً واحدة كما هو الحال لدى الأمة الإسلامية؟ ومما لا شك أن عوامل ودواعي الوحدة وشد أزر روابط العلاقة الإسلامية كثيرة ومتنوعة –سآتي عليها بعد قليل- لكن أهم ما فيها وأعظم هذه العوامل إنما هي أخوة الإيمان والعقيدة، إذ تلقى أخاً لك في الله من الهند وأنت من الشام أو مصر أو العراق فتجد أن لحمة قوية وجذباً شديداً تجاهه ونحوه دون مقدمات ودون تعامل أو شراكة أو تجارة أو مصلحة بينكما. ولا يعود ذلك إلا إلى العقيدة الواحدة في صدر الإثنين والدين الواحد الرابط بينها، وهذا مصداق ما قاله رب العزة جل شأنه، “ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم”.
كما وهناك أمر في غاية الأهمية ألا وهو أن الإسلام هو الذي جعل من أمة العرب أمة عزيزة مهيبة الجانب بعد أن كانت مقسمة في ولائها إلى فارس والروم فالغساسنة كانوا تبعاً للروم، والمناذرة كانوا تبعاً للفرس، وكانت بلادهم محتلة فمنها كبلاد الشام على سبيل المثال، كانت تحت الحكم الروماني. وكانت هاتان الإمبراطوريتان تتحكمان في رقاب العرب، ولا تجرؤ العرب على أن تقول لا أو ترد الأمر على الآمر سواء صدر من فارس أم من الروم.
وقد سبق لي أن كتبت حول هذ الموضوع وأبنت عنه وأن العرب ليسوا بشىء دون الإسلام، إذ الإسلام هو الذي جعل لهم الشأن والشأو، ولن يعود للأمة الإسلامية عزها ومجدها إلا إذا رجعت إلى الإسلام كما قال الفاروق عمر عليه الرضوان: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله” وبالتالي فإن العودة إلى الإسلام بالضرورة ستقودنا إلى اللحمة والأخوة في الدين وستعيدنا إلى الجادة والطريق القويم، وتجعل منا أمة منصورة عزيزة. ويجمل جداً أن أسوق هنا ما كتبته في بحثي الذي عنوانه “الحاجة إلى الإصلاح ودواعي الإصلاح في المجتمعات العربية”. وفيه:
أهمية الإصلاح في المجتمعات العربية
لقد حبى الله سبحانه أمة العرب مكانة جليلة وقدراً سامياً رفيعاً. وجعلهم محل تلقي آخر رسالة سماوية إلى الأرض. فأنزل القرآن الكريم بلغتهم وعلى رجل عظيم منهم، وهذا بلا شك تشريف لهم وإعطاؤهم المحل الذي يليق. قال تعالى: “وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون”. (19)
فمن الطبيعي والبدهي حينئذ أن تتحمل أمة العرب رسالة وأمانة تميزها عن سائر الأمم، وتوجب عليهم الإضطلاع بها وحملها وأداءها على خير وجه. وإلا سيحاسبوا على التقصير والتفريط إن هم قصروا أو فرطوا أو ضيعوا.
“وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”. (20)
فأمة العرب يجب أن تبقى أمة إصلاح وعليها أن تأخذ زمام المبادرة في ذلك لأن الله تعالى قد اختارها لحمل هذه الرسالة وتبليغها للأمم كافة، والذود عن حياضها. فهي أمة رائدة وطلعة وينتظرها واجب أممي عظيم “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” فما يصلح لأمة من الأمم قد لا يصلح لأمة العرب بحكم أنها أمة رسالة إلهية خالدة، مطلوب منها حملها وتبليغها لأمم الأرض كافة. وهذا على الصعيد الخارجي، وهو من الأهمية بمكان بحكم التكليف وضرورة التبليغ.
أما على الصعيد الداخلي فيلزم أمة العرب أكثر مما يلزم سواها بحكم وضعها الذي لا تحسد عليه. فبعد أن كانت أمة ذات سيادة بين الأمم، وصاحبة موقع متميز على الخريطة العالمية والدولية، وذات نفوذ عظيم وقوة جليلة وسيطرة مكينة، تخطب ودها أمم الأرض، وتهاب جانبها الشعوب كافة، وتحسب لها الحساب الكبير إمبراطوريات وحكومات قادرة ومتنفذة، وبعد أن كانت تقود العالم وتسيطر على كثير من جوانبه وأجزائه، غدت اليوم ألعوبة في أيدي العالم، إذ حسرت قوتها، وأصابها الوهن، ولم تعد يحسب لها الحساب الذي كان يحسب، فتذكر إن غابت، أو تستأمر إن حضرت، وغدت كما قال شاعر تيم
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
غدت أمة العرب في ذيل القافلة، وظهرت بمظهر التخلف فتبدلت أحوالها، وتغيرت مكانتها. فأمة من هذا القبيل إن لم تلزمها سياسات الإصلاح فتلزم من حينئذ؟ إذا لم تفكر هذه الأمة بمناهج الإصلاح فمن الأمة التي ستفكر في ذلك؟ يتوجب على أمة العرب قبل سواها من الأمم أن تنهج نهج الإصلاح، وأن تعيد النظر ما بين الفينة والفينة في سبل التغيير نحو الأفضل، كلما اعتارها خطب أو نزلت بها نازلة، أو رأت نفسها تمر في حالة من الضعف أو الترهل أو النكوص عن القوة، أو التخلف عن ركب الأمم. على أمة العرب أن تفكر مليا وأن تسائل نفسها. من الذي جعل من أمة العرب بعد أن كانت أمة ضعيفة مفككة مقسمة في ولائها ما بين الروم والفرس، فالغساسنة كانوا يتبعون دولة الروم، والمناذرة كانوا يتبعون دولة فارس، هذه الأمة التي كان بعضها يغزو بعضا، وغنيها لا يلوي على فقيرها، وقويها لا يعين ضعيفها، هذه الأمة التي كانت تعيش حياة الفاقة لدرجة أن بعض القبائل كانت تأكل إلهها من الجوع والمسغبة، حتى سارت الركبان بالمثل “بنو حنيفة أكلت ربها” من الذي جعل منهم أعز الأمم وأفضلها وأقواها؟ أليس هو الله سبحانه بدينه القويم العظيم؟ وقد سبق لي أن قلت في بحث أعددته عن العرب:
كما أن العرب في تاريخهم قبل الإسلام كانوا كما وصفهم قتادة بن دعامة وهو سيد من سادات التابعين وعلم من أعلام العرب، سدوسي، قال عن تفسير قول الله تبارك وتعالى “وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”. كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكومين (محبوسين ومشدودين) على رأس حجر بين الأسدين: فارس، والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق فيها شأناً منهم. حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس أ.هـ. (21)
كما كانت تعيش أمة العرب حياة الأمية، والنبي العربي صلوات الله عليه هو القائل: “نحن أمة أميون لا نحسب ولا نكتب”. (22)
ما الذي أحال بعد ذلك أمة العرب كي تصبح قادة وسادة العالم؟
ما الذي جعل من أمة العرب أن تقوى على تقويض أكبر إمبراطوريتين في العالم آنئذ؟
وما أجمل وأعظم ما ساقه المؤرخ العلامة والمفسر ابن جرير الطبري في كتابه “التاريخ الكبير” في الدلالة على صغر شأن العرب قبل الإسلام أمام فارس وأن العرب قبل الإسلام لا شيء أمام أولئك الناس، ثم كيف غدوا بعد الإسلام أمام أولئك الناس أنفسهم.
قال العلامة المؤرخ الطبري:
إن أول عمل قام به أمير المؤمنين عمر مقاتلة فارس، فشق ذلك على المسلمين كثيراً، وكان ينتدبهم في كل يوم فلا ينتدب أحد إلى فارس. وتعلة ذلك: أن وجه فارس من أكره الوجوه إلى العرب وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم (أي الفرس) وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم أ.هـ. (23)
وقال أيضاً: ثم أقبل (أي المغيرة بن شعبة) وقد انتدبه سعد بن أبي وقاص لمقابلة ومحاورة رستم حين كان سعد حينها مريضا مصابا بقرح شديدة ولا يستطيع أن يثبت على الدابة، حتى انتهى إلى رستم، ورستم من وراء الجسر العتيق مما يلي العراق، والمسلمون من ناحيته الأخرى مما يلي الحجاز فيما بين القادسية والعذيب، فكلمه رستم، فقال: إنكم معشر العرب كنتم أهل شقاء وجهد، وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد، فأكلتم من طعامنا، وشربتم من شرابنا، واستظللتم من ظلالنا، فذهبتم فدعوتم أصحابكم، ثم أتيتمونا بهم.
وإنما مثلكم مثل رجل كان له حائط من عنب، فرأى فيه ثعلباً واحداً، فقال: ما ثعلب واحد؟ فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى الحائط (24) فلما اجتمعن فيه جاء الرجل فسد الجحر الذي دخلن منه، ثم قتلهن جميعاً. وقد أعلم أن الذي حملكم على هذا معشر العرب الجهد –بفتح الجيم- الذي قد أصابكم، فارجعوا عنا عامكم هذا، فإنكم قد شغلتمونا عن عمارة بلادنا، وعن عدونا، ونحن نوفر لكم ركائبكم قمحا وتمراً، ونأمر لكم بكسوة، فارجعوا عنا عافاكم الله.
فقال المغيرة بن شعبة: لا تذكر لنا جهدا إلا وقد كنا في مثله أو أشد منه، أفضلنا في أنفسنا عيشاً الذي يقتل ابن عمه، ويأخذ ماله فيأكله، نأكل الميتة والدم والعظام، فلم نزل كذلك حتى بعث الله فينا نبياً، وأنزل عليه الكتاب، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه منا مصدق، وكذبه منا آخر، فقاتل من صدقة من كذبه، حتى دخلنا في دينه من بين موقن به، وبين مقهور، حتى استبان لنا أنه صادق، وأنه رسول من عند الله، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا، وأخبرنا أن من قتل مناعلى دينه فله الجنة، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه، فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت كانت لك بلادك، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك فالجزية، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال رستم: ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع منكم هذا معشر العرب لا أمسي غدا حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم، ثم أمر بالعتيق أن يسكر، فبات ليلته يسكر أ.هـ. (25)
هذا هو أمر وشأن العرب عند فارس وغيرها من الأمم آنذاك، لا وزن لهم ولا قيمة ولا قدر، ولا يحسب لهم أي حساب، ولو أن رستم كان يأبه بهم ويحسب لهم حساباً يسيراً لما بات ليلته ثملا وغده سيكون في مواجهة لهذا الجيش القادم.
عوامل تقوية الروابط ما بين أبناء الأمة الإسلامية والسبل المؤدية لتحقيق هذا الغرض
إن عوامل تقوية الروابط ما بين أبناء الأمة الإسلامية وسبلها كثيرة ومتعددة، منها ما هو جغرافي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو تربوي، ومنها ما هو ديني وعقدي، ومنها ما هو مصالح مشتركة. وأنا سآتي على أهمها وأكثرها تأثيراً، على وجه الإجمال والإختصار تتميماً للفائدة. غير أن الحديث في تقوية الروابط بين أبناء الأمة الإسلامية سيقودنا حتماً إلى العوامل والسبل المؤدية إلى هذا الغرض الجليل والمطلب العزيز والغاية التي نرجوها من تحقق هذا الهدف. لأننا إن أردنا تحقيق الروابط بين أبناء الأمة الإسلامية لا بد وأن نسعى ونتحسس ونتلمس ما يؤدي بنا إلى تحقيق المراد، ونتعرف طرائق وسبل ذلك، كي نستطيع الوصول إلى الغاية المنشودة وهذا المأرب الذي تشرئب إليه أعناقنا جميعاً.
ولهذه العوامل والسبل التي تتحقق من خلالها الوحدة لها محور خاص سيتحدث فيه الزملاء الكرام وهو محور “عوامل ومقومات وحدة العالم الإسلامي”.
وفي تقديري أن أهم ما نتحدث به هنا وفي هذا السبيل إنما هي وحدة العقيدة والاخوة القائمة على أساس الدين والإنتماء للإسلام العظيم.
أبي الإسلام لا أبالي سواه إذا انتسب الناس لقيس أو تميم
وقال صلوات الله عليه: “سلمان منا أهل البيت” (26)
وقال نبي الهدى أيضاً: “أنا جد كل تقي” (27)
الإسلام هو الذي جعل من بلال الحبشي العبد أخاً للفاروق عمر ابن قريش، بل كان الفاروق عمر يقول: “أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا”. ويقف أبو سفيان القرشي الزعيم وبلال الذي كان عبداً حبشياً على باب عمر إبان ما كان خليفة للمسلمين فيأذن الفاروق عمر بالدخول لبلال قبل أبي سفيان. فيستشيط أبو سفيان غضباً لذلك، ويعاتب الفاروق عمر فيرد عليه الفاروق: يا أبا سفيان كان بلال أسبق منك إلى الإسلام فهو أسبق منك بالدخول علي.
الإسلام هو الذي وحد قلوب العرب وجعلهم إخوة متحابين بعد خصومة وعداوة ولدد. وقد امتن القرآن الكريم على العرب في ذلك فقال سبحانه: “واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها” (28).
لقد أحال الإسلام المجتمع العربي إلى مجتمع موحد متحاب متماسك، جعل فيه قوة الوحدة وأزال منه بذور الفتنة والشقاق. ومما يلفت إليه النظر في هذا السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة من أوائل ما قام به من أعمال على الصعيد المجتمعي كله أن عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ترسيماً لدعائم المحبة والتعاون وقوة اللحمة.
فغدا في هذا المجتمع الرومي والفارسي والحبشي والعربي إخوة في الله متحابين تسود علاقاتهم الأخوة وتحكم الصلاة بينهم على هذه القاعدة الإيمانية الصلبة. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى تجذيراً لهذا النوع من العلاقة بناء على هذه القاعدة وعلى وجه الخصوص. “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم”. (29).
“الأخلاء يؤمئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”. (30)
وحتى يصرف الإسلام النظر عن سواها من العلاقة الحميمة واللحمة المجتمعية القوية ذكر أن الميزان الذي يجب أن يوزن فيه وبه الأفراد إنما هو ميزان التقوى لا شيء سواه فقال تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (31).
وقال صلوات الله عليه: “ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى”. (32).
فغدا هذا هو الميزان الذي يوزن به الأفراد ويوزن به الناس في المجتمع المسلم لا ميزان العشيرة والقبيلة، ولا ميزان المال والجاه. فعز العبد، وعز الحبشي الأسود، وعز الغريب الفارسي أو الرومي أو المولى. وما ذلك إلا لأن الإسلام قد أقام العلاقة ما بين الناس على أساس العقيدة والدين والتقوى. وما أجمل ما تم ما بين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الذي كان يعتز حتى النخاع بعروبته وأصالته ومحتده، وبين الإمام العلامة الزهري الذي كان يقيس الناس على أسس من الشرع والدين وتلكم ما تم بينهما للدلالة على نقول:
جاء في مقدمة ابن الصلاح:
روينا عن الزهري، قال: قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة. قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية، قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا.
قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قال: قلت: طاوس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟
قال: قلت من الموالي. قال: وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: إنه لينبغي.
قال: فمن يسود أهل مصر؟ قال: قلت يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل الشام؟ قال: قلت مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل.
قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.
قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي.
قال: فمن العرب أم من الموالي. قال: قلت: من العرب.
قال: ويلك يا زهري فرجت عني والله، لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين: إنما هو أمر الله ودينه من حفظه ساد ومن ضيعه سقط أ.هـ. (33).
الإسلام هو الذي وضع أقدام العرب على العالمية والدولية. وهو الذي جعل منهم أمة واحدة متحابة متعاونة من المحيط إلى الخليج، ومن حدود إسبانيا في الغرب حتى أطراف الصين في الشرق.
الإسلام هو الذي جعل من الهندي والماليزي والعربي والفارسي والصيني والإندونيسي والفلبيني إخوة يسود علاقاتهم الود والإحترام المتبادل والمحبة منذ الوهلة الأولى من اللقاء. وما فضل ذلك إلا للعقيدة والدين الذي رباهم هذه التربية ووضع في صدورهم المحبة بعضهم لبعض.
وهذه الرابطة هي أقوى ما تكون عليه الروابط، ووحدة أقوى ما تكون في تماسكها وجعل منها الإسلام أشد لحمة من رابطة المال والدم أو العشيرة والقبيلة.
فإذا ما سادت هذه الرابطة وتحققت هذه الوحدة فإن الأمة سيشد بعضها بعضاً، ويقوي بعضها بعضا، ويقف بعضهم إلى جانب بعض. وإلى هذا أشار النبي الكريم صلوات الله عليه وأمر به ووجه تجاهه الهدى والنصيحة والأمر، فقال صلوات الله عليه: “ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وقال أيضا صلوات الله عليه: “المسلم أخو المسلم. لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا” ويشير إلى صدره ثلاث مرات، “بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”. (35).
وقال أيضاً في معرض هذا التوجيه الكريم الرشيد والباني بإحكام لبنات العلاقة المجتمعية: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. (36)
فإذا ما تحققت هذه المعاني في النفوس وتفاعلت معها القلوب انعكس ذلك لا محالة على السلوك والتوجه وترجم إلى أفعال. وبهذا نكون قد شددنا وثاق ورباط هذه الأمة وجمعت على قلب رجل واحد، فأصبحت عصية على الهزيمة أو التفكك والضعف فلا تهزم بإذن الله، ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلا”. (37)
الأمة الإسلامية أمة قوية على الدوام وإن تخللها الضعف أحياناً
أو في بعض فترات التاريخ
أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس بنص القرآن الكريم. كيف لا؟ وهي صاحبة الرسالة الخالدة خلود الأيام والسنين، ورسالتها هي المنقذة للناس من النار والمخرجة لهم من الظلمات إلى النور، والهادية للناس سواء السبيل، والمبينة لهم دينهم وعقيدتهم الحقة ودالة لهم على التوحيد ونافية عن الله الند والشريك، وهي التي قد سلمت من التحريف والتغيير. فهي الرسالة الحقة، وهي الرسالة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وهي الحجة على الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فأمة هذه صفاتها وهذا ما هي عليه من الحق المبين لا بد وأن تبقى في ميادين العطاء، ولا بد من أن يكون لها ريادة ومضاء وعزيمة، وحتماً ستأخذ حيزاً كبيراً في المجتمعات الإنسانية في مجال العقيدة والتربية والتوجيه والإرشاد، والوعظ. إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سمة من سمات هذه الأمة وشعيرة من شعائر العمل المتحتم لديها، ومئنة على الواجب التي تضطلع به تجاه الأمم وشعوب الأرض قاطبة.
من هنا سيكون لهذه الأمة الآثار الكبيرة على النفوس والمجتمعات، وسيكون لها النتائج الإيجابية الكثيرة في مجال الدين والقيم والسلوك والأخلاق. فأمة الإسلام كما هي أمة عطاء في وجوه متعددة فهي أمة أخلاق وقيم في الوقت ذاته. بمعنى هذه الأمة هي في رعاية من الله وحفظ ولن يضيع الله أمة هذا شأنها وهذه رسالتها للبشرية جمعاء وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
من هنا نقول بأن الأمة الإسلامية ستبقى في الميدان الإنساني والبشري حتى وإن رؤيت ضعيفة، أو تكالبت عليها الأمم كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها “فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن” فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”. (38).
فقد يمر على أمتنا بعض أوقات وأزمنة تكون ضعيفة أو تهزم فيها كما الحال في سقوط بغداد على يد التتار، وغزوه لبلاد الشام، ومحاولة غزوه لمصر، فقد عاث التتار في ديار الإسلام كل فساد وقتل مآت الآلاف من الأنفس البريئة، وقصة التتار مع الأمة الإسلامية معروفة ومن الشهرة بمكان. لكن سرعان ما استعادت الأمة الإسلامية عافيتها فلملمت صفوفها ووحدت كلمتها ونفثت في ذاتها روح الإيمان والعزيمة والمضاء، ونفضت عن نفسها غبار الذل والضعة، فهزمت التتار شر هزيمة، بل عاد التتار إلى دياره مسلماً مؤمناً، حيث تأثر بهذه الأمة أكبر تأثير لدرجة أن دخل الإسلام وآمن. فلولا لدى أمتنا مقومات التأثير في الآخرين بما هي عليه من رسالة جليلة عظيمة ومبادىء جد قيمة رشيدة، وعلوم متقدمة ونهضة حضارية يشهد لها، وإلا لما تأثر بها لا التتار -وهو متغلب ومنتصر- ولا غيره كشعوب جنوب شرق آسيا التي دخلت الإسلام دونما حرب أو قتال أو صراع، وإنما تأثرت بما كان عليه المسلمون الذين قصدوا تلك الديار تجاراً من أخلاق حميدة وسلوك قويم نبيل.
ثم لا تخفى علينا جميعاً الحملات والحروب الصليبية التي غزت ديار الإسلام ودكت قواتها حصونه، واحتلت أراضيه فترة غير قصيرة من الزمن، على رأس وفي مقدمة هذه الأرض المحتلة إنما هو بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك، لدرجة أن بلغ الأمر مع الصليبيين أن ربطوا خيولهم في المسجد الأقصى. ولكن أيضاً سرعان ما عاد للأمة رشدها وصوابها وجمع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى كلمتها ووحد صفوفها –كما هو المراد اليوم- ومؤتمرنا واحد من هذه السبل ووخزة في ضمير الأمة علها تستيقظ من سباتها فتجمع صفوفها وتتغلب على بذور الفتنة والتفسخ الذي هو سائد فيما بينها وتثوب إلى رشدها وتعود إلى كتاب ربها وسنة نبيها كما صنعت مع صلاح الدين وكما صنع معها صلاح الدين. فقويت وقتئذ بعد ضعف وانتصرت بعد هزيمة، وعزت بعد ذل، وغنيت بعد فقر، وأعادت لنفسها وذاتها المكانة المرموقة والتي تليق بها كخير أمة أخرجت للناس. وها نحن اليوم لا يصح بحال أن يتسلل اليأس إلى نفوسنا ونصاب بالإحباط، ونستسلم لما نحن فيه من ضعف واستكانة، ونطأطأ رؤوسنا لغائلة الأيام وما يريده لنا أعداؤنا. فنحن دوماً وأبداً الأعز وصدق الله سبحانه الذي قال: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” (39).
وعلينا أن نعلم أن الناصر هو الله وأن المعز والمذل هو الله. وأن الله تعالى ناصر من نصره معز من أعز دينه نؤمن حق الإيمان عملاً كما هو القول في قوله تعالى”ولينصرن الله من ينصرة (40).
وقوله تعالى: “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” (41).
وقوله سبحانه: “وما النصر إلا من عند الله”. (42)
ولنستذكر معركتي بدر وحنين حيث افتقر المسلمون في بدر إلى كل أسباب القوة والنصر، ومع كل ذلك انتصروا، وذلك أنهم ركنوا إلى الله وتوجهوا إليه وسألوه النصر، فانقطعوا عن الأسباب المادية ولجأوا إلى رب الأسباب ومدبر السموات والأرضين فنصرهم الله. “ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة”. (43).
أما في حنين فركنوا إلى قوتهم وكثرتهم، وقال أحدهم “لن نغلب اليوم من قلة”.
وقال الله فيهم “ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين”. (44).
هذه آيات بينات وعبر وعظات على أمتنا الإسلامية أن تقف عندها طويلاً وتتخذها منهجاً ودستوراً، ولا يصح أن تمر عليها مر السحاب. بل لا بد من أخذ العبرة والعظة وأن تقتفي هذه السنن الإلهية، ولا يجوز ولا من العقل ولا من الرشاد أن تحيد عنها أو تتخذها وراءها ظهرياً.
من هنا نقول بضرورة الأوبة والرجعة إلى الله سبحانه، وأن نعمل بآيه وبسنة رسوله وصدق رسول الله صلوت الله عليه: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب الله وسنتي”. (45)
وأن نعمل بما قاله سبحانه “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”. (46)
وعلينا أن نلتزم بقوله سبحانه ونعمل به: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. (47)
فتقوية روابط الأمة من أولى الوجبات المتحققة في رقابنا جميعاً، وعلينا أن نعمل كل ما بوسعنا لتحقيق هذا الهدف والغرض السامي والعظيم، والذي بدونه لن تذوق أمتنا طعم النصر وطعم العزة والكرامة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين