بسم الله الرحمن الرحيم
العلامة البكري ومصنفه “الخمرة المحسية في الرحلة القدسية”
تجمعني مع الباحث المحقق والعالم الجليل الشيخ عمار توفيق بدوي عضويتنا في مجلس الإفتاء الأعلى في قطرنا وبلدنا فلسطين. حيث فضيلة الشيخ مفتي محافظة طولكرم، وعضو مجلس الإفتاء الأعلى. وهذه مكانة وموقع يستحقه هذا العالم الموقر نظراً لعلمه العزير وفقهه في الدين، وغزارة بحثه واستقصائه للحجج والأدلة الناهضة والمنافحة عن صحة رأيه. فأنا أحترمه وأجله، إذ هو إلى جانب ذلك غاية في اللطف ودماثة الخلق وحسن العشرة. ومن عادة الشيخ المفتي أن يقدم لي نسخة من عمله العلمي وتحقيقاته الدقيقة على سبيل الإهداء. فما كان منه إلا أن ذكر لي عن آخر ما برعت به يراعه وخطه وقرطس به قرطاسه ما حققه في النهاية آنف الذكر “الخمرة المحسية في الرحلة القدسية” للعلامة والرحالة المصنف مصطفى البكري الصديقي المتوفى سنة اثنتين وستين مائة وألف للهجرة الشريفة (1162هـ) رحمه الله تعالى.
حيث قام باحثنا الجاد الشيخ عمار بدوي بتحقيق هذه المخطوطة وإخراجها للنور بعد ما عمل عليها الدراسات والتحقيقات والتنبيهات والتذييلات وما تلزم الإشارة إليه ويلزم تصحيحه، وما تلزم إضافته وبيانه البيان العلمي المدعم بالحجة والدليل على عادته في البحث والاستقصاء. فعلى عادته الحميدة قدم لي نسخة من هذا العمل البديع والتحقيق المستنير، إذ أرسله إلى مكتبي نسخة أخرى من هذا الإنجاز المبدع –بفتح الدال- والذي هو على غير مثال من صنوه وما يشبهه، حيث أفدته أن النسخة الأولى التي سلمنيها باليد قد ضللت طريقها، إذ من عادة البعض أن يستعير الكتاب ولا يرجعه بكل أسف.
وتعود أهمية المصنف –بفتح النون المشددة- والمحقق- بفتح الدال المشددة- إلى أسباب كثيرة وعديدة، منها ما يعود سببه للعلامة المؤلف صاحب الرحلة، ومنها ما يعود للكتاب أو المخطوط. ومن أهم الأسباب التي تعود إلى أهمية الكتاب المحقق كونه من متعلقات بيت المقدس بوجه خاص وأرض الرباط بوجه عام. وقد كانت هذه الرحلة مصدراً للكثير من الباحثين والدارسين، وزاداً استعان به كل أو جل من جاء بعد العلامة البكري الصديقي وكتب عن بيت المقدس أو الديار المقدسة.
يقول محقق هذه الرحلة وكاتب مقدمتها فضيلة الشيخ الأستاذ عمار:
كانت رحلة العلماء تكتسب أهميتها ويعلو شأنها بالبلد المرتحل إليه. والرحلة التي أقدمها للقراء حققت أعلى المنازل، وأسمى المراتب، فهي سير حثيث، وقافلة يترنم حاديها بتراتيل قدسية مباركة إلى أرض القداسة. والقدسية رحلة اصطبغت بصبغة الروح، وعاشت فيها عواطف الوجد الدفين نحو القدس، موئل الأنبياء، وكهف العابدين، وسفارة السماء في الأرض، ومسرى النبي الأمين، ومعراجه صلوات الله عليه.
تعد رحلة الصديقي للديار المقدسية من أبرز الرحلات في القرن الثاني عشر الهجري، واتكأ عليها كثير من الباحثين في دراسة جغرافية، وتاريخ، ومدنية الأماكن التي زارها، وذكرها في رحلته.
وما من دارس للقدس، وما حولها إلا ورشف كأساً من الخمرة المحسية في الرحلة المقدسية.
اتسمت الرحلة بعناصر مثيرة، جذبت قارئها إليها ….. الخ أ.هـ.
صاحب هذه الرحلة هو الإمام العلامة العارف بالله مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي الدمشقي مولداً ونشأة. وفي رحلته إلى بيت المقدس تزوج من فتاة فلسطينية نشأت محبة شديدة واحترام جد كبير ما بين المصاهر والمصاهر له. فما كان من العلامة الجليل الصديقي إلا أن طلب المصاهرة من هذا الرجل وهو محمد بن عبد الله السلفيتي فكانت الموافقة على هذه الطلبة العزيزة على فؤادي الإثنين.
ومن الملاحظ أن العنونة غريبة بعض الشيء “الخمرة المحسية في الرحلة القدسية” فالسجع فيها واضح ومراد أيضاً ومهدوف إليه. لأن عادة الأقدمين كانوا يميلون بأسلوبهم الأدبي النثري إلى السجع، بل غدا هذا اللون من الكتابة في عصر من العصور من الأهمية بمكان، وتقاس عظم الأديب وتقاس قدراته البلاغية ويشار إليه بالبنان في الأوساط العلمية والأدبية والنثرية والشعرية إذا كان حاذقاً بالصنعة هذه. وهناك كتب ومصنفات ألفت في ذلك كالمقامات على سبيل المثال لبديع الزمان الهمذاني، والحريري وغيرهما.
وهذا الأسلوب هو الذي كان يغلب على علماء اللغة والأدب في تصنيفهم وكتاباتهم بل وخطبهم في عصور خلت يوم أن كانت اللغة العربية سيدة اللغات، وكان أصحابها سادة الأمم وشعوب الأرض بلا منازع.
ومن الطرائف في هذا المجال ما كان من أحد الأمراء حينما زار مدينة “رقم” إحدى مدن ايران حالياً. فما كان من أميرها إلا أن عزل حاكمها وقاضيها وذلك كي لا يقع في حرج عدم معرفة السمع. إذ حينما وقف خطيباً وكان لا بد من أن يبدأ بتوجيه الخطاب أدباً ونظام خطاب إلى حاكم المدينة وقاضيها. فقال الأمير: أيها القاضي بـ “قم” فارتج على الأمير ولم يجد كلمة مسجوعة تسعفه على غرار لفظه “قم” فما كان منه إلا أن قال وبسرعة بديهة “قد عزلناك فقم”. فكان يسأل القاضي فيما بعد عن سبب عزله فكان يجيب ويقول: عزلني السجع.
وعوداً إلى رحلة الصديقي –رحمه الله تعالى- فقد كانت تأريخاً لرحلة زمنية كانت تمر فيه القدس الشريف، وفي ثناياها يبين العلامة الرحالة عن أهمية بيت المقدس ومكانة هذه المحلة في الأرض، وأنها البقعة المباركة. كما تحدث عن قدسية وعظمة أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين.
وفي هذا إبراز أيما إبراز لمكانة المدينة العتيقة، وأنها متميزة عن سواها من مدن الأرض كافة سوى البقعتين الشريفتين في الحجاز. ومما لا ريب أن ذلك عظمة وقداسة وإرث حضاري وريادة، ومكانة بين الأمم جد سامقة، وتاريخ أثيل تليد.
لقد أعطى فضيلة الشيخ المحقق للمخطوطة حقها من الدراسة والبحث والإستقصاء فجد حتى تمكن من الحصول على نسخ ثلاث لهذه الرحلة، كانت نسخة المدينة المنورة هي الأساس في بحث المقارنة والمقاربة لذات النص. كما عمل على تخريج الأحاديث الشريفة التي وردت عند الرحالة الجليل وحكم عليها، وهذا بلا ريب عمل جد عظيم.
وكذلك خرج الآثار، ورد النصوص المنقولة إلى مظانها، وشرح المفردات الغريبة في ثنايا النص، وترجم للأعلام التي صدر عنها المؤلف في الذكر. كما صنع جهداً مميزاً أيضاً بأن عرف بالمدارس، والزوايا، والتكايا، والخلوات التي جاء ذكرها بين سطور الكتاب، هذا إذا ما عرفنا بأن العلامة الصديقي له طريقة في تصوف تعرف بالخلوتية، وهذه طريقة من التميز والشهرة بمكان لدى السادة مشايخ الطرق الصوفية أنار الله بصائرنا جميعاً. وغير ذلك الكثير الكثير، ختمها بوضع فهارس كاملة وشاملة للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الكريمة، والآثار، والأعلام، والأماكن، والمصطلحات، والمكتبات، والطرق الصوفية، والكتب الواردة في النص.
وقد جعل المحقق القسم الأول من الدراسة تعريفاً بالشيخ العارف بالله مصطفى الصديقي وعقد له خمسة عشر مطلباً.
ومما لا ريب أن رحلة العلامة الصديقي تضاف إلى مصادر ومؤلفات كثيرة أخر كتبت عن بيت المقدس تاريخاً ووصفاً وحاضرة علم وكعبة زوار من شتى بقاع العالم الإسلامي، وحروباً ضروساً وجهاداً كبير دار رحاه على هذا الثرى المقدس فتحاً لهذه المدينة ودفاعاً عنها، وتحريراً لأرضها، واسترداداً لكرامة مسلوبة، وعز أشاح بوجهه، ونصر قد ضن بذاته، واستقرار أبى على نفسه ألا يكون. ثم دارت الدائرة ثانية وتعرض المسجد المحزون لما لا يسر مؤمناً ولا يرضي خاطر صالح مخبت، ولا يقر نفس أواب منيب. فاحتل بعد تحرير، واغتصب بعد نقاوة، فخيم الحزن على جنباته، وتداعت أركانه للنحيب والنشيج، فمر الصالح على المروءة فرآها نائحة صائحة فقال:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت علام تنتحب الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي؟ وأهلي دون خلق الله ماتوا
فهل مات أهل المروءة والنخوة والبأس حتى حل بالمسجد المكروب ما حل؟
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان؟
هل المدينة المقدسة حقاً تبكي وتشكي؟ أم حقاً تنتحب وترثي:
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب وإسلام وإيمان
لقد أثارت هذه الكلمات أشجاني وعدت إلى الوراء واأسفاه وواأقصاه قبل ما يزيد عن عشرين عاماً تحت عنوان “رسائل المسجد الأقصى إلى شقيقيه الحرمين الشريفين”. وهي مجموعة من الرسائل يبث فيها الأقصى حزنه وأشجانه ويخاطب أهله وأشقاءه، حيث هو في الأسر ورسائله يرسلها عبر البريد لهؤلاء الأهل والأشقاء يخبرهم عن حالة ومآله الذي آل إليه، وكيف وضعه في السجن وما صفة القيود التي يرسف فيها وترسف فهيا يداه وقدماه.
الأقصى اليوم يحتاج إلى رحالة يزوره ويتفقده ويقيد كل ما يرى ويشاهد، ويدون مذكرات وتاريخ ينفث أسى وحسرة على الوضع الحزين والكتب الذي يمر به هذا المعلم المقدس والذي هو مناره أمة، وعنوان حضارة، ومصدر إشعاع وتاريخ، وملهم –بفتح الميم- علم وفتوحات ربانية تتجلى على عقول وأفئدة رقراقة صافية منجذبة لخالق واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
مدينة عز نظيرها، وقل مثيلها، وندر شبيهها. نحمد ربنا ونشكره أن كنا من أهلها وممن عاش ودرج على ثراها وتنسم عليلها وسرح نظره وبصره في ذراها وهضابها، وكان له قصب سبق في التخندق في خنادقها.
د. حمزة ذيب مصطفى
عضو مجلس الإفتاء الأعلى
14/ ربيع أول/ 1434هـ –
وفق 26/1/2013م