بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة القدس رافعة كبرى ومنجز جد عظيم للمدينة المقدسة
الحلقة الأولى
ليس من نافلة القول ولا بدعاً من الحديث إن ذكرنا –بفتح الكاف- أو ذكرنا –بتشديد الكافة المفتوحة- بأن إنشاء جامعة عربية إسلامية في المدينة المقدسة كان مطمح أمتنا الإسلامية ومحط آمال كبار قادتها السياسيين والتربويين والمفكرين، وقبل ذلك وبعده نظر العلماء الأجلاء الثاقب في الثلث الأول من القرن العشرين حيث نشوء الصراع العربي الإسرائيلي على فلسطين، وذلك بعيد سقوط الخلافة العثمانية وظهور أطماع الحركة الصهيونية، وبدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتحديداً بعد إنشاء الجامعة العبرية على أرض القدس الشريف. فبدأت حينئذ المخاوف من الاستيلاء على القدس خاصة وفلسطين عامة لدى قادة الأمة الإسلامية من قادة محليين، أو قادة من أقطار مجاورة لبلاد الشام ومصر والعراق، أو على مستوى الأمة من حدود إسبانيا في الغرب إلى أطراف الصين في الشرق. وهذا له تاريخ حافل وسجلات ولقاءات ورحلات ومذكرات ومشاهير. وكله مدون ومحفوظ ومخطوط. لكن إفراده هنا من غير الممكن عبر مقالة في صحيفة لها أهداف وغايات سوى غايات التدوين في مجال السرد التأريخي أو تدوين التاريخ. غير أن هذا الحلم –كما أسلفنا من قبل وفي أكثر من مناسبة- لم يتحقق وبقي تحقيقه بعيد المثال بسبب ظروف الاحتلال البريطاني لفلسطين وفرض الوصاية الدولية على هذا القطر الذي لا يزال يعاني الإحتلال والنزف الدموي والإقتصادي، ويعاني التشريد والحصار، وسياسات الخنق والإذلال ومصادرة الأراضي وتكثيف الاستيطان وتوسيع مساحات السجون وإعدادها كي تتسع لأكبر عدد من الفلسطينيين. اللهم لا حول ولا قوة إلا بك وحدك لا شريك لك.
غير أن الإرادة الإلهية حينما تتم ويأتي أمرها لا راد لها ولا محيل ولا مغير لها. سنة الله فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
فشاءت إرادة الله الحكيمة أن تنشأ هذه الجامعة، بل وتكبر وتنمو حتى تغدو من أحسن وأفضل الجامعات في فترة زمنية قياسية لا تعهدها فترات إنشاء الجامعات، ولا تعهدها سنن إنشاء هذه الصروح العلمية المتميزة.
غدت هذه الجامعة في أحضان بيت المقدس والمتربعة في إحدى زواياه وفي أحد أركانه راسية من الرواسي الشداد المثبتة للقدس عروبتها وإسلامها.
كما غدت قاعدة من القواعد الهامة في تثبيت الهوية الثقافية والتربوية لهذه المدينة المهددة، وعنواناً وطنياً عريضاً في مدينة كثرت فيها المسميات والعناوين غير العربية، بل لنقل مسميات وعناوين يهودية فوق أرض هذه المدينة وتحتها. وعن الأنفاق تحت الجزء العربي -والذي فيه اعتراف بأنه محتل وعربي- فحدث ولا حرج.
جامعة بل مدينة جامعية في قلب القدس من أعظم أسباب المحافظة على مستقبل العروبة والإسلام في هذه المدينة. ومن خلال نظرة سريعة لخريطة هذا المعلم العظيم في هذا الموقع الأهم والأخطر من حيث الزمن وتاريخ حياته للاستيلاء عليه وتهويده وسلخه وفصله عن جسده الأم لتثبؤنا نظرة من هذا النوع على عظمة هذا المنجز، وأهميته في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أو الفلسطيني الإسرائيلي الحديث. هذه الجامعة وهذا الصرح العلمي والمعرفي والثقافي الذي غدا ملاذاً آمناً لذوي المدينة المقدسة وأهلها الصابرين الصامدين، غدا هذا المعلم الكبير والضخم رئة يتنفس من خلالها المرابطون في خندق الدفاع عن أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين. غدا هذا الإنجاز الذي يملأ السمع والبصر معيناً لا ينضب أمام الرواد الظمآى من أكناف بيت المقدس، فضلاً عن حمايتهم من كل زيغ أو تيه أو ضلال، هذا موقع ومشفى لجيل في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس يتهدده خطر الضياع والإنحراف والفساد أو السقوط في مهاوي الرذيلة والفتن.
وحينما راودت نفسي في الكتابة عن هذا الموضوع ظننت أن مقالة قد تسعفني في هذا المجال، ولكن حينما أمسكت بالقلم وقلت بسم الله وبدأت بالكتابة حار قلمي وتشعبت أفكاري وأضحى الحديث بين يدي خواطري ذا شجون مع العلم أنني قد كتبت الكثير في هذا المجال فيما سبق من أيام وشهور وسنين خلت، ولربما لو جمع الذي قد كتبته في هذا السياق يقع في مجلد كبير. ورغم كل ذلك قررت أن تكون كتابتي اليوم عبر حلقتين ومقالتين لا حلقة ولا مقالة واحدة. وذلك نظراً لأهمية الموضوع وغزارة نوع الحديث فيه، وضرورة التعرض له سيما مثل هذه الأيام العصيبة من تاريخ القدس الشريف. وجاء ذلك على أثر مقالة تخص رحالة زار بيت المقدس وكتبت عنها قبل أيام. كما جاء بسبب ما أسمعه أحياناً من البعض غير المنصفين وغير المتبحرين أو غير الناظرين نظراً ثاقباً في حاضر الجامعة ومستقبلها على أرض أولى القبلتين. ودائماً أقول: أين الكمال في كل مؤسسة أو عمل سيما في مؤسساتنا الفلسطينية عبر ظروفنا الصعبة والقاسية؟ أين الكمال وأين النهاية في كل مرحلة من مراحل التطور والنماء والصعود؟ هل كل عمل بالضرورة سيحوز على إعجاب الجميع وإعجاب الكل؟ لو كان الأمر كذلك لما حكمنا على أحد بالنجاح في الدنيا، ولو كانت الأمور والنجاحات تقاس عبر هذه المعايير الخاطئة تماماً لما تقدم وتتطور أحد. شتان بين الناقد الباني، والناقد الهادم. وفرق كبير بين الموضوعي الحيادي وبين الموتور والحاسد. هناك فارق شاسع بين المتفائل والمتشائم. كما وهناك بون ومسافة بين من ينظر إلى الإيجابيات ويبني عليها حياته ونجاحاته وتقييمه للآخرين والنهوض بعثراتهم وكبواتهم، وبين من ينظر إلى السلبيات ويجعلها هي المنطلق والهدف، فهذا لا ولن يبني ويكون سبباً في التقدم والتطور والنهوض بالمؤسسات والمجتمعات.
إن مثل الذي ينظر إلى النجاح العظيم والمنجز الكبير وفي الوقت نفسه يزدري هذا النجاح أو المنجز العظيم لبعض السلبيات أو الأخطاء فيه كمثل الذي يقول لمن حاز على معدل 90% أنت صاحب عمل ونتيجة سيئة وسلبية لأنه لديك عشرة أخطاء، أخطأت في كذا وكذا، فيعدد له أخطاءه وناسياً أو متناسياً90 صواباً حاز فيها على قصب السبق واستحق أن يكون تقديره الإمتياز. أو من حاز على معدل 80% فيقول له المتشائم أو صاحب الميزان المعوج: نتيجتك سيئة لأن عشرين خطأ لديك. أهكذا تقوم أو تقيم النجاحات وبناء المؤسسات والمجتمعات؟ ثم هناك اختلاف في وجهات وطرائق الإجتهاد وقياس الأمور والأشياء والحكم عليها، فليس بالضرورة إن حكمت على أمر من الأمور أنه خطأ أن يكون هذا الحكم صائباً أو صائباً من كل الوجوه، وليس بالضرورة إن صوبت أمراً أن يكون كذلك وإن خطأته أن يكون خطأ. لماذا لا يعذر بعضنا بعضا؟ لماذا لا يلتمس بعضنا العذر لبعض. أين نحن من القاعدة العظيمة من قواعد الإجتهاد والدعوة إلى إعمال العقل والرأي في قول المصطفى صلوات الله عليه “من اجتهد فأصاب له أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجراً”؟ بتقيماتنا السلبية نأتي على كل إيجابية، ونحبط كل عامل ومجتهد، فتضمحل لدينا الهوامش الإيجابية والهوامش الصائبة وتكثر لدينا هوامش الخطأ والخلل والزلل. كأننا نقول والحالة هذه للمجد والمجتهد والمخلص والعامل والباني: إياك أن تعمل لأن السهام ستنوشك، وإياك أن تجد وتجتهد لأنك ستكون غرضاً للآخرين.
هذه فلسفة تربوية خاطئة جداً، بل قاتلة. إن بنينا برجاً عظيماً فهل لخلل بسيط وخطأ في بعض الأمور في هذا البرج يجب أن نحكم على البرج والطواقم الهندسية والفنية والمهرة أنهم كلهم خطأ وما صنعوه لا يستحقون عليه الجزاء الحسن ولا الشكر الكريم؟ يا قوم والله إن هذا لعين الظلم والحيف على الآخرين.
نحن لسنا في الوقت نفسه ضد من يقدم النصح الكريم والرأي السديد، لسنا ضد من ينقد ليبني ويطور، ولسنا ضد من ينقد ليصوب ويحسن. فهذا شيء والإساءة شيء آخر. لربما هنا خرجت بعض الشيء عن النص كما يقال، أو حل بي ما كان يحل بالجاحظ من الإستطراد. لكن ذلك والله من الألم الذي في النفس بسبب هذه السياسات النقدية والتربوية والتوجيهية الخاطئة في مجتمعاتنا العربية، والتي بسببها نتجرع آلام التخلف والخلط والخطل. ومما لا ريب أن هذه السياسات لن تخلق تقدماً وعملاً ناجحاً ومتطوراً، بل ستقودنا إلى الفشل والنأي عن النجاحات في مجالات الحياة المتعددة.
وأنا أقول هنا بأنه يتوجب أن يؤخد بيد الناجح والمخلص والجاد والغيور ويلزم الوقوف إلى جانبه والذود عن حياضه والتماس العذر له حتى لو بان خطؤه كالشمس في رابعة النهار.
يقود كل ذلك إلى ضرورة إدراك أهمية جامعة القدس وأنها منارة من منارات العلم والهدى على الثرى المكروب المهدد، وتضطلع هذه الجامعة برسالة متميزة ومختلفة في كثير من غاياتها وأهدافها عن باقي الجامعات.
أذكر في الاجتماع الثالث لرابطة الجامعات الإسلامية وفي دورة المجلس التنفيذي التاسع لهذه الرابطة والمنظومة الدولية حين مناقشة تقارير الجامعات الأعضاء في المجلس التنفيذي وكان ذلك في رحاب جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن الشقيق بتاريخ 18/2/2012م وكانت ورقتي عن جامعة القدس حيث هذه الجامعة عضو في المجلس التنفيذي للرابطة وهي الجامعة الفلسطينية الوحيدة في هذا المجلس ولله الحمد، وهذا مكسب كبير للجامعة ومفخرة لنا كفلسطينيين، ومما قلته في هذه الورقة تحت عنوان: من أين تأتي أهمية جامعة القدس؟ …
إن لجامعة القدس أهمية كبرى في حاضرنا وظرفنا المعاصر تميزها عن سائر الجامعات، ثم تحدثت عن سبب هذه الأهمية وتميزها عن سواها من الجامعات، إذ تناولت الجانب الديني وقداسة المكان الرابضة على أرضه هذه الجامعة. ثم تاريخ هذه المحلة المرموقة والمكان المقدس المختلف عن سواه من الأمكنة والمدن والبلدان، وقد قلت في هذا اللقاء: إن تاريخ القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك تاريخ حضارة وعلم ومجد على الدوام. فعلى هذا الثرى تحاورت الأمم والحضارات، وعلى هذا الثرى وقعت الحروب والمطاحنات، وفي أروقة هذه البقعة كانت دور العلم، وفي باحات المسجد الأقصى درج العلماء ودرسوا ودرسوا، وفي جنباته نبغ الفقهاء والمفكرون، وعلى مصاطبه جلس العلماء يصنفون ويؤلفون …… إلخ.
ثم تحدثت عن توقيت إنشاء هذه الجامعة وقلت في هذا التوقيت كلاماً مطولاً. ثم كون هذه الجامعة جامعة العاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة. ثم تناولت رسالة الجامعة الجليلة التي تضطلع بها على هذا الثرى الطهور.
إلى هنا في هذا اللقاء وإلى حلقة قادمة أخرى بإذن الله. والسلام عليكم.
د. حمزة ذيب مصطفى
جامعة القدس
وفق 9/2/2013م