بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا اللقاء نواصل الحديث الذي لا بد منه ولا مندوحة عنه في ضرورة تأصيل وتجذير مفهوم التكاملية في العمل الإسلامي، وإذا كنا نفهم في ميدان العمل الإٍسلامي الجماعي أن العمل الجماعي هو الأفضل والأحسن وهو المنهج النبوي الكريم، وهو الموصل للغاية والهدف، وهذا لدى الجماعات والأحزاب الإسلامية كل على حدة وفق ما أدى إليه اجتهاده، فإذا كان هذا هو الأمر وهي القناعة لدى هؤلاء الفضلاء من الدعاة المخلصين أليس من باب أولى أن نفهم العمل الإسلامي الجماعي على صورة وهيئة أكبر وأشمل وذلك من خلال الجماعات والأحزاب الإسلامية على اختلاف مشاربها واجتهاداتها وتصوراتها؟ ففي هذه الحالة الجميع يعمل للجميع، والبعض يعمل للكل؟ وفي حالة الوصول إلى الهدف المنشود من قبل حزب أو جماعة معينة فكأن الجميع قد وصل حينئذ الهدف المنشود والغاية المرجوة، هذا إذا كانت النوايا خالصة لوجه الله لا تشوبها شائبة من حب الدنيا والمركز والجاه والسلطان، هذا في حالة تجرد الذات عن حظوظ النفس كما قال البطل المغوار أسد الإسلام خالد بن الوليد: لا أقاتل في سبيل عمر وإنما أقاتل في سبيل الله أ.هـ. ونحن بلا ريب نفترض في الجميع حسن الظن، وأن القيادات الإسلامية كلها على هذا النهج والتصور والتجرد عن الذات والإخلاص لله وحده. جزى الله الجميع عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. والعمل للإسلام ضمن مفهوم التكاملية بمثابة من أراد أن يبني قصراً كبيراً، فمن الناس من يقوم بمهمة هندسة القصر، ومنهم من يقوم بمهمة البناء، ومنهم من يقوم بمهمة الحدادة، ومنهم من يقوم بمهمة النجارة، ومنهم من يقوم على مهمة تبليطه ….. وهكذا دواليك حتى يكتمل البناء. فلم يعمل أحد كل شيء، وإنما عمل جزءاً فتكاملت الأجزاء وكان القصر. أو مهمة التعلم كل يدرس ويعلم اختصاصه فتتكامل العملية التعليمية لدى الطلبة حتى نخرج في نهاية المطاف بجيل متعلم ومثقف وواعي وناجح على أمور الحياة المختلفة.
هذا جانب من جوانب التكاملية في العمل الإسلامي الجماعي. وجانب آخر في غاية الأهمية أيضاً أنه لا يجوز لجماعة أو حزب إسلامي أن ينفصل لا مادياً ولا شعورياً عن المجتمع أو المجتمعات المسلمة، ولا يتصور نفسه أنه وحده في الساحة والميدان، أو أن الناس في واد وهو في آخر. فهذا تصور خاطيء ومورث لسوء الظن بالناس والمجتمع المسلم، وهذا مع تكراره يجعل فاصلاً كبيراً وجداراً سميكاً ما بين هذ الفئة المؤمنة العاملة للإسلام وبين المجتمع المسلم والفئات المؤمنة الصالحة منه.
ومن هنا نقول بأن الحزب الإسلامي أو الجماعة المسلمة لا يصح لها أن تتعامل مع الناس في المجتمعات المسلمة وفق القاعدة الحزبية الضيقة على اعتبار أن الذي قد انتظم في سلك هذا الحزب أو هذه الجماعة هو أحد أعضائها وهو عنصرها الوحيد، فهذا خلل وخطأ وتصور غير سليم أبداً، وهي بهذا التصور تخسر أكثر مما تربح، وتنحسر قاعدتها بدل اتساعها، وتضيين للأفق بدل اتساعه ونضجه. ألا وإن من أكبر الأدلة على أن الحزب الإسلامي أو الجماعة المسلمة لها الجمهور المسلم وليس فقط أعضاء الحزب أو أعضاء الجماعة ما يجري على الساحة الإنتخابية وفي صناديق الإقتراع. حيث يدلي المجتمع المسلم بأصواته لهذا الحزب أو الجماعة المؤمنة، فيحصد التيار الإسلامي جل الأصوات ومعظمها فيحتل أكبر المقاعد البرلمانية وقد يستطيع تشكيل الحكومة بمفرده. فهذا علام يدل؟ وهل أصوات أعضاء الحزب أو أعضاء الجماعة وحدها هو الذي أوصلها إلى ما وصلت إليه؟ من هنا نقول بأنه لا يجوز ولا يصح أبداً في العمل الإسلامي لدى الأحزاب أو الجماعات أو التيارات الإسلامية أن تقصر علاقاتها ومناصبها ووظائفها على أعضاء الحزب أو الجماعة فقط، لأنها ستكون والحالة هذه جزءاً من تلك الأحزاب غير الإسلامية والتي لا تستند إلى القاعدة الجماهيرية استناد التيار الإسلامي إلى قاعدته المجتمعية السليمة، لأن التيار الإسلامي هو الذي يعبر عما في النفوس المؤمنة، ويحمل حضارة الأمة وفلسفتها وعقيدتها، ويتبنى أحكام الشرع التزاماً وتطبيقاً، وهكذا هي الأمة والجماهير التي لا تستند إلى شيء سوى ذلك. فأضحى التيار الإسلامي قلب الأمة النابض. فكيف والحالة هذه سيفصل الحزب الإسلامي أو الجماعة المسلمة نفسه بأعضائه عن باقي جسمه الآخر والأكبر؟ من هنا نقول على الحزب الإسلامي أو الجماعة المسلمة أن تختار دوماً وأبداً الكفاءة وحسن الإدارة والتوجيه لأي موقع تريده، لأن من الأمور القاتلة لدى أمتنا المعاصرة أننا عبر التنظيمات والأحزاب الحاكمة الموجودة لا نضع الإنسان المناسب في الموقع المناسب، ولا نبحث عن الكفاءة والإقتدار والنزاهة والسلوك القويم قدر بحثنا عن الولاء للتنظيم بغض النظر عن القدرة في العطاء والإخلاص في التوجه. وهذا سبب كبير من أسباب متعددة أصبنا لأجلها بالتخلف والتراجع عن ركب الأمم المتطورة والمتقدمة. فإذا كانت الأحزاب ذات الصبغة الإسلامية لا تقدم مثل هذا النموذج ولا تنتهج نهجاً من هذا النوع فما الفرق حينئذ بينها وبين الأحزاب الأخرى؟ وهل هي عبر هذا التصور والمنهج تضحي أمل الأمة الكبير وعنوانها المفقود وهدفها المنشود؟ مما لا شك إن كنا على هذه الفلسفة وسلكنا في واقعنا وفق هذه التصورات فقد حجرنا واسعاً وضيقاً أفقاً رحبة، وتسببنا في إصابة الناس بخيبة الأمل، ولم نستطع وقتئذ من تقديم النموذج اللازم والنموذج الحق والنموذج الصحيح والنموذج الأمل. وبهذا نكون قد أسأنا وما أحسنا الإحسان المطلوب وأفسدنا وما أصلحنا الإصلاح المرجو. ومما يعتل به البعض ويدافع عنه حول تعصب الحزب أو الجماعة لأعضائه بحجة أن الجماعة تريد أن تقوي نفسها وتعضد وتقف إلى جانب أفرادها حتى تكسبهم إلى جانبها وصالحها، حيث هؤلاء قدموا وضحوا وأولئك لم يقدموا ولم يضحوا، ثم هؤلاء الأفراد تستيطع الجماعة أن تعتمد عليهم في تنفيذ برامج الحزب أو الجماعة أكثر من العناصر غير المسيسة أو غير المنتظمة في سلك تنظيم الحزب أو الجماعة. فهذه نظرة إن صحت لدى الأحزاب الدنيوية أو العلمانية أو القومية فنقيس عليها تصوراتنا لدى تياراتنا الإسلامية، فلا تصح البتة مع الأحزاب الإسلامية والجماعة المسلمة مثل هذا القواعد أو المقاييس والتصورات. لأن قاعدة تلك الأحزاب هم أعضاؤها فقط أو إلى حد كبير، أما قاعدة الأحزاب والتيارات والجماعات الإسلامية فهي الجماهير والمجتمعات المسلمة. وأنا لست ضد الإنتقاء ولكن شرط ذلك أن يكون وفق معايير الكفاءة والقدرة مع مراعاة العامل والجانب الإسلامي كسلوك والتزام إلى حد ممكن ومعقول، وليس إلى حد الكمال. فإن توفر الكمال في كل شيء هي المطلوب وإن لم يتوفر فإلى حد معقول شريطة توفر القدرة والكفاءة وحسن الإدارة.
وابن تيمية شيخ الإسلام والمفكر العظيم هو القائل: لو توفر عندي رجلان لاختيار قائد منهم. أحدهم حاذق فاسق، والآخر تقي غير حاذق أختار القائد الحاذق الفاسق وأترك الرجل التقي غير الحاذق. لأنه إن فشل التقي فضرره يعم الجميع وصلاحه وتقواه لنفسه، أما الفاسق فحذاقته يرتد خيرها على الجميع وفسقه على نفسه والله يتولى حسابه أ.هـ.
هذا هو العقل النير الذي نستطيع قياس الأمور بمنطق حق القوة، قوة الإختيار الحسن، وقوة الإدارة الحكيمة، وقوة التصور النزيه، وقوة التجرد عن الذات. وهذا النهج هو الذي يقدم الأمة ويطورها ويضع قدمها على الجادة الموصلة للغاية.
وهذا يذكرني بالمقولة الشهيرة للإمام مالك رحمه الله تعالى حيث قال: إن من شيوخي من استسقي بهم الغمام لكني لا أقبل منهم حديثاً واحداً أ.هـ.
إن الحزب الإسلامي أو الجماعة المسلمة يجب أن يفهموا أن القاعدة الشعبية العريضة هي لهم، وهي جمهورهم وأصواتهم الصادحة بالحق، فلا يجوز لهذا الحزب أو تلك الجماعة إلا أن يكونوا لها، ويكون أو تكون هي صوت الجمهور الصادح أيضاً، تلك هي التكاملية أيضاً ما بين الحزب الإسلامي أو التيار الإسلامي الحاكم والجمهور أو الأغلبية الصامتة كما يقال. وليس بنجاح أن تكون الثقة ما بين الفئة الحاكمة والمجتمع المحكوم متآكلة أو ضعيفة، سيما إن كانت الحاكمة هي الفئة المؤمنة المخلصة. ولا يعتبر الحزب الحاكم ناجحاً إن كان ما بينه وبين من يحكمهم سدود وحواجز كبيرة، أو هامش المحبة المتبادلة والإخلاص المتبادل ضيق وضئيل “شر أمرائكم من تلعنونهم ويلعنونكم”.
وفي الحديث الصحيح المرفوع الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى “ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”.
وهذا فيما إذا أخذنا بعين الإعتبار أن أية فئة أو أي حزب يحكم يجب أن يكون للجميع دون استثناء، فالناس أمام القانون يتوجب أن يكونوا سواء، وأن يأخذ كل مواطن حقه بغض النظر عن انتمائه أو توجهه لأنه جزء لا يتجزأ من كل، وعليه ما على الآخرين من واجبات وسلوكيات، لا يجوز للحزب الحاكم أن يمارس ظلماً تجاه أحد أو يحابي أحداً على حساب أحد، أو تكون الوساطة والمحسوبية فهو الحق والقانون. وهذا في حق الحزب المسلم والمؤمن آكد وأشد. لقد أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.(1)
الكفاءة الكفاءة، العدل العدل، والنزاهة النزاهة.
د. حمزة ذيب مصطفى
جامعة القدس
رئيس مجلس الإدارة لمركز القدس للدراسات والإعلام الإسلامي
17/جمادي الأولى/1428هـ –
3/6/2007م
الهامش
(1) هذا جزء من حديث صحيح.