بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة أخوية إلى دولة إيران الشيعية
مما يؤسفني أن أعنون رسالتي على هذه الشاكلة بلفط “الشيعية” لأنني لا أحب أن أستخدم أو أسمع تفريقاً ما بين سني وشيعي، لأننا كلنا مسلمون، وأهل قبلة واحدة وكتاب واحد ونبينا كذلك واحد، وغايتنا أيضاً واحدة وهي رضا الله سبحانه، ثم الفوز بالجنة والنجاة من عذاب القبر والنار.
كما أننا –معشر المسلمين- في هذا الزمن نرمى عن قوس واحد دون أن يفرق أعداء الإسلام ما بين سني وشيعي وها هي الحملات الدولية على إيران كما هي على العراق وأفغنستان، وهناك التأييد الكبير للإحتلال الإسرائيلي.
فهذا الزمن كما يحتاج إلى كياسة وبعد نظر ودبلوماسية كبيرة وسياسات حكيمة جداً يحتاج كذلك من الأمة الإسلامية في الوقت نفسه إلى وحدة الصف والتآم الكلمة والتعاون والإعتصام بحبل الله جميعاً بعيداً عن أية فرقة أو انقسام واحتدام وخصومة وعداوة.
وقد سبق لي أن كتبت حول وحدة الصف ما بين السنة والشيعة كان آخرها ما وجهته في رسالة مفتوحة إلى رئيس دولة إيران أحمدي نجاد.
ثم مضى علينا زمن ليس باليسير ومن الممكن أن نقول قد مضت قرون عدة لم نسمع بخلاف كبير أو حاد أو يجلب خصومة وعداوة، حتى شعار هذا سني وذاك شيعي لم نسمع به أو بهذه الخصومة والخلاف الحاد –الذي يجب أن يوأد في مهده- إلا في هذه الأيام. فلماذا في هذا الوقت تحديداً؟ ولمصلحة من هذا الخلاف في هذا الزمن الصعب على الإسلام وأهله؟
لم القتل في العراق الشقيق على الهوية أو الإسم. فمن كان اسمه عمر أو عائشة قتل على الفور. فهل يحكم هذا التصرف دين حق أو عقل سليم أو حكمة أو سداد رأي؟
وها أنا اليوم أعاود الكتابة من جديد على أثر الإحتدام الكلامي ما بين بعض علماء المذهب الشيعي والعلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، حيث حذر الأخير مشكوراً من خطر مد المذهب الشيعي ومحاولة نشره من قبل دولة إيران مجندة في ذلك الدعم المالي والمعنوي ونفوذ القوة لدى هذه الدولة. وما قاله العلامة القرضاوي حق وعدل وما حذر منه يتوجب على كل عالم من المذهب السني أن يحذر منه. صحيح نحن لا نقف أبداً من الإخوة الشيعة موقف الخصومة والعداء، ولا نتحسس سبل القطيعة ما بيننا وبينهم، ولا نجيز الإنقسام والفرقة والتمييز ما بين سني وشيعي، ونقول: لهم مذهبهم ولنا مذهبنا، وعند الله الفصل فيما نختلف فيه وعليه.
ومما لا ريب أيضاً أن لذلك تاريخاً طويلاً في الخلاف وتأصيل كل من المذهبين. ونقول في الوقت ذاته بأننا معشر السنة والجماعة على الحق بإذن الله والأدلة النقلية والمنطقية والعقلية والتاريخية تحكم لنا لا للمذهب الشيعي. ولست هنا في معرض المقارنة والمقابلة وإيراد الأدلة والحجج لإقامة الدليل على صحة مذهبنا وبطلان مذهبهم. حيث هذا مبحث طويل والخلاف فيه تاريخي –كما أسلفت- ولا مجال له هنا في هذه المقالة القصيرة.
غير أننا نقول يكفي أن مذهب أهل السنة والجماعة متوازن كل التوازن ودقيق في معاييره كلها في الحكم على الآخرين والتاريخ، ولا يجنح دونما حجة أو دليل. ويكفي مئنة فقه ذلك وعلامة صواب الرأي لديهم وعظيم فهمهم ودقة التناول لدى الحكم على أمر من الأمور، موقفهم من الصحابة الكرام الذين نقلوا لنا الإسلام من كتاب وسنة. فهم الذين جمعوا القرآن الكريم وهم الذين تناقلوه جيلاً بعد جيل وخلفاً عن سلف بالتواتر الذي لا مسحة لشبهة فيه حتى وصلنا ووصل الأجيال السابقة وسيصل إلى الأجيال اللاحقة بإذن الله كما أنزل على رسول وفؤاد نبي الله صلوات الله عليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها. كما أنهم هم الذين نقلوا الحديث الشريف كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظوه لنا من الضياع حيث قيض الله من يدون ويحفظ ويكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعظم من ذلك على عظمة ما سبق طريقة التحري والضبط ودقة النقل والقدرة على التمييز ما بين الصحيح والحسن والضعيف والموضوع وهناك الصحيح لذاته والصحيح لغيرة والحسن لذاته والحسن لغيره، والضعيف الذي قد يجبر والضعيف الذي لا يجبر ضعفه، وهناك الموضوع المردود قولاً واحداً. كل ذلك ينم عن مدى الدقة والتناهي في البحث والتحري مستخدمين كل أدوات البحث العلمي والموضوعية والنزاهة التامة والمجردة حتى عن الهوى البسيط. وبالمناسبة أنا أستاذ الحديث الشريف في جامعة القدس.
كما أن هؤلاء الصحابة هم الذين نصروا رسول الله وآزروه وعزروه ووقروه وآووه وذادوا عنه وبذلوا دماءهم وأموالهم وفلذات أكبادهم رخيصة في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام ورسوله صلوات الله عليه، مهاجرين وأنصاراً.
كل ذلك ليس لهم من ورائه أي مطمح أو مطمع دنيوي، وإنما كل هذا البذل والتضحية والفداء في سبيل الله ولنيل مرضاته سبحانه. فبأي حق يطعن إخواننا الشيعة في هؤلاء الصفوة الذين قد رضي الله عنهم بنص القرآن كقوله تعالى “لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة” وقال جل شأنه “رضي الله عنهم ورضوا عنه” .
ومما لا ريب أن الطعن فيهم هو طعن في الإسلام لأنهم الذين نقلوا إلينا الإسلام وهم حلقة الوصل ما بين الأمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هل الصحابة كلهم حارب الإمام علياً؟ ألم يكن الجم الغفير في صفه ويقاتل معه؟ ثم هل الصحابة ملائكة أو أنبياء معصومون من الخطأ والزلل؟ فقد يتخاصم الصحابة وقد يختلفوا، وقد يتعادوا وقد ينقسموا في الرأي حالهم حال البشر جميعاً. ولكن هذا شأنهم ولا يخرجهم كل ذلك عن العدالة والتقوى والورع، ولا يسعنا أن نقول فيهم إلا ما قاله رب العزة ورسوله الكريم من الرضا عنهم والترضي عليهم ونقول “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون”. فهذا باختصار شديد جداً وإلا فالموضوع طويل وله تشعبات وذيول.
فالعلامة الأستاذ القرضاوي إنما يطلب من الإخوة الشيعة ألا يسبوا هؤلاء الصفوة وهؤلاء الخيرة وهؤلاء العدول، فمطلبه حق وصدق وعدل جزاه الله كل خير عن الإسلام والمسلمين، وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة.
وحول تحذيره من مد المذهب الشيعي في مناطق السنة فهو على حق أيضاً، فها نحن لا نفرض على الأقلية الشيعية أن تعتقد مذهب أهل السنة والجماعة ولا ننتقص من شأنهم وقدرهم. ولا نناصبهم أي عداء، رغم أن أهل السنة والجماعة هم الأكثرية والأغلبية وأتباع المذهب الشيعي الأقلية. فلماذا لا تنشط دولة إيران في نشر مذهب التشيع في مناطق الشرك والكفر، والمناطق والدول التي لا تدين بالإسلام أصلاً؟ وهناك مناطق الكفر والفقر معاً، وأصلاً هذا الذي تعمله جمات التبشير بالنصرانية ودعاة المسيحية. فلماذا لا يتم النشاط والعمل الدؤوب في مناطق لا تدين بالدين الإسلامي، وبعضهم وثنيون إلى يومنا هذا؟ وهناك من يعبد الحيوانات، وهناك من ليس على شيء، وهناك النصارى واليهود وكثير من الجماعات التي تعد في نظر الإسلام ليست على هدى. فلماذا النشاط في أوساط أهل السنة والجماعة وفي دولهم تحديداً؟ فإذا ما فعلت إيران ذلك أو حاولت فعله لا بد أن تتوقع مثل هذه الردات من الفعل والقول من علماء أهل السنة. هذا أمر. والأمر الثاني:
إن الإنقسام اليوم والخلاف الحاد ما بين أهل السنة والشيعة ليس من مصلحة أحد من الطرفين خصوصاً دولة إيران المحاصرة والمهددة بالهجوم. ويحاول أعداؤها أن ينصبوا لها الشراك أو الفخاخ كي تقع فيها، فهم يحاولون جهدهم أن يوقعوا ما بينهم وبين دول المنطقة السنية المحيطة أو المجاورة لإيران، كي يسهل ضربها أو التحالف ضدها كما جرى مع العراق. وما من شيء جرأ أمريكا والعالم على ضرب العراق ومحاصرته قبل ذلك قدر خصومها وعداواتها مع دول الجوار والدول الشقيقة. فلم يجد صدام حسين بواكي له نظراً للخصومة والعداوة التي كانت ما بين نظامه وكل دول الجوار وأكثر الدول العربية الشقيقة، فأضحى في الميدان لوحده وفريداً فكان الإنقضاض عليه سهلاً وميسوراً. وها هي ايران يراد لها ما أريد للعراق الشقيق، ويحاول أعداؤها أن يفرغوا جعبتها من الأصدقاء والحلفاء والمتعاطفين معها وبشكل أخص دول الجوار، وبالتالي الدول العربية والإسلامية.
ومن هنا نقول: إن إثارة النعرة المذهبية ومحاولة استعداء دول وعلماء وبالتالي أهل السنة ليس في مصلحة إيران البتة.
فليس من مصلحة إيران أن تخاصم العلامة القرضاوي لأنه رمز من رموز أهل السنة والجماعة في هذا العصر، وهو أحد علماء هذا المذهب الكبار، بل هو رئيس اتحاد علماء المسلمين. فهو يمثل قطاعات كبيرة وشرائح عظيمة لدى أهل السنة والجماعة، فعداوته خطأ شنيع واستعداؤه أشنع وأكبر. لأن الخلاف إن استشرى واتسع فلن يقف عند حدود الدكتور القرضاوي وحسب، بل سيمتد حتى يطال كل أو معظم الدول في الوطن العربي والعالم الإسلامي، لأن الأمر سيغدو لو انتشر عند ذلك سني وشيعي، وهذا خطر كبير يتهدد العالم الإسلامي حينئذ والسبب نحن معشر المسلمين من سنة وشيعة، ولكن الشيعة لهم حصة الأسد في أسباب هذا الخلاف إن لم تكن لهم الحصة كلها.
دولة إيران الشقيقة بحاجة ماسة لكسب التأييد الدولي والعربي والإسلامي، وبحاجة ماسة لتكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء، ولهذه الدولة الحسنات الكثيرة والمواقف الشجاعة والصادقة والعالم الإسلام يحتاجها حاجة ماسة سيما في هذا الزمن، فلا يصح بحال أن تتبع سياسات ونهجاً يجعل منها دولة في مهب الريح وعرضة ليل نهار لأعاصير الفتنة والعداوة والخصومة.
يلزم دولة إيران وقد رزقها الله تبارك وتعالى المال والتأييد أن تكون عنصراً كبيراً للتجميع لا للتفريق، ويلزمها أن تفكر ليل نهار في كيفية تجنيب العالم الإسلامي الفتنة والفرقة، وتجند لذلك الطاقات الكبيرة من العلماء الأجلاء والمفكرين وقادة الرأي لدى المذهبين، وتقوم على عمل المؤتمرات العلمية لأجل هذه الغاية الجليلة والفرقة العظيمة وتخصص المبالغ المحترمة من المال الوفير لأغراض البحث العلمي في هذا المجال، وتغذي كل ما من شأنه التقريب بين وجهات النظر لا أن تكون سهاماً مسومة لا قدر الله تخز بها جسد الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي الذي يعاني أصلا الفرقة والتشتيت والحدود المصطنعة منذ انهيار الخلافة العثمانية وتفسيخ وتفتيت الدولة الإسلامية إلى إمارات ودويلات كما الحال في اتفاقية سايسبيكو سنة 1916م. حيث ضعف الدولة الإسلامية وتكالب الأعداء عليها من كل حدب وصوب. يلزم إيران في هذا الزمن أكثر من غيرها أن تكون وتجعل من نفسها صمام الأمان لدى أمة الإسلام بما حباها الله من قوة ومال وعدد ونفوذ. لا أن تكون سبباً في تفريق المفترق وإضعاف الضعيف وتشتيت المشتت.
هذه رسالة ونصيحة من الأعماق أتقدم بها كورقة عمل لدولة إيران الشقيقة. راجياً لها التوفيق والسداد والعزة والتطور.
د. حمزة ذيب مصطفى
جامعة القدس
عضو رابطة علماء بلاد الشام
17/شوال/1429هـ –
وفق 16/10/2008م