بسم الله الرحمن الرحيم
فضائل بيت المقدس
شاءت حكمة الله تبارك وتعالى البالغة أن يصطفي أناساً وخلقاً دون خلق فاصطفى الأنبياء من بين سائر خلقه. كما اصطفى أياماً دون أيام فكان شهر رمضان مميزاً ومفضلاً من بين الشهور وعليها، وكان هناك يوم عرفة والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة، وهكذا حتى كان التفضيل في الساعات والأوقات، كساعة في يوم الجمعة والثلث الأخير من الليل. حيث ينزل الله تبارك وتعالى في هذا الوقت إلى السماء الدنيا ويقول جل شأنه: هل من تائب فأتوب عليه وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل فأعطيه.
وكما كان ذلك في الخلق والأيام والأوقات كان كذلك في البلدان والأماكن. فكان هناك الحرمان الشريفان مكة والمدينة في الحجاز، وكانت أيضاً بيت المقدس في بلاد الشام.
ومما لا شك ولا ريب أن القدس الشريف تحتل مكانة كبيرة في نفوس المسلمين وأرواحهم، وحبها والدفاع عنها جزء من عقيدتهم. ومن هنا كان يؤثر عن البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله تعالى- أنه ما كان يرى يضحك، فقيل له في ذلك، لم لا تضحك؟ فقال: كيف لي أن أضحك والمسجد الأقصى أسير في يد الصليبيين؟
جاءت هذه المكانة لهذه المدينة واحتلت هذا القدر من مساحة الإيمان لدى أمة الإسلام من خلال ما ورد فيها وفي فضلها من نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة. فقد ورد في القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو المسيع البصير”. الإسراء: آية رقم (1).
وذهب بعض المفسرين في قوله تعالى: “والتين والزيتون وطور سينين -آية رقم:2 من سورة التين- أن المقصود بالتين والزيتون هو تين وزيتون بيت المقدس. قاله كعب الأحبار وقتادة (1) كما جاء في قوله تعالى: ”
كما وردت آيات كريمة فيها لفظ “الأرض المقدسة” كما في قوله تعالى: “يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم”. سورة المائدة آية رقم 21. والأرض التي باركنا فيها للعالمين كما جاء في قوله سبحانه”ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين” سورة الأنبياء آية رقم 71. قال المفسرون والعلماء: إن المقصود بهذه الأرض المقدسة والمبارك فيها للعالمين هي أرض فلسطين. وما قدمت كل فلسطين إلا لأن حصة الأسد من هذا التقديس إنما هو للقدس الشريف. وهناك أيضاً مدينة “بيت لحم” التي ولد فيها السيد المسيح عليه السلام وهناك مدينة الناصرة التي درج على ثراها كذلك السيد المسيح صلوات الله عليه.
كما أن هناك الكثير من الأنبياء عاشوا وماتوا على هذا الثرى المقدس، منهم السيد المسيح الذي عاش قسطاً من حياته في القدس وأخذ به للتنكيل بشخصه الشريف من طريق الآلام التي تقع الآن في البلدة القديمة من القدس الشريف. فقدست فلسطين برمتها وعلى رأسها وقلبها مدينة القدس التي تضم في جنباتها وعلى ثراها الطهور المسجد الأقصى المبارك. حيث هو ثاني مسجدين في الدنيا وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال بقصد التعبد والتبتل والإنقاطع عن الدنيا لله رب العالمين. ورد في الحديث الشريف أن أبا ذر الغفاري سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام. فقلت: يا رسول الله، ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة. (2).
وقال صلوات الله عليه في شأن شد الرحال إلى المسجد الأقصى “…. ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا”. (3).
والنصوص في هذا الشأن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة لكنني اقتصرت على شاهد واحد للإختصار. (4)
القدس قبلة المسلمين الأولى
كما لا ننسى أن القدس كانت قبلة المسلمين الأولى وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة والكعبة بين يديه. ثم صلى إليها بعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً على اختلاف أو شك من الراوي. فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً –شك سقيان- ثم صرفنا إلى القبلة” (5).
وقد جاء عن ابن عمر عليهما الرضوان قوله: “بينما الناس في صلاة الصبح في قباء جاءهم رجل. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الليلة قرآن، وأمر أن يستقبل الكعبة. قال: فاستقبلوها وكل وجه الناس إلى الشام، فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة” (6).
فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة هذه المدينة فهي القبلة الأولى للمسلمين، وهي القبلة أيضاً لأهل الكتاب على الدوام. كل ذلك يدل على فضلها وقداستها ومكانتها الدينية والروحية.
ومما لا شك أن فضل هذه المكانة قد قادت إلى فضل الصلاة في بيت المقدس. جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام النسائي وابن ماجه في سننيهما والضياء المقدسي في كتابه فضائل بيت المقدس من حديث عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن سليمان سأل الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين، وأرجو أن يكون أعطاه الله الثالثة: سأله أن يحكم بحكم يواطىء حكمه فأعطي، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه، وسأله أيما عبد أتى بيت المقدس لا يريد إلا الصلاة فيه أن يخرجه (7) من خطيئته كيوم ولدته أمه”. (8).
كما جاء الحض من الشارع الحكيم على زيارة بيت المقدس (9) والصلاة فيه وأن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة وفي رواية بألف صلاة. وهذ من باب الترغيب في إتيانه وزيارته والصلاة فيه. كما يدل ذلك أيضاً على قداسة هذا المكان. كما أمر الشارع الحكيم أن يعمر هذا البيت. جاء في الحديث الذي روته الصحابية الجليلة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله: أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر، إئتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه، قالت: يا سول الله، أرأيت من لم يطق محملاً إليه، قال: فليهد له زيتاً يسرج فيه، فمن أهدى إليه شيئاً كان كمن صلى فيه (10)، ومما جاء في فضل بيت المقدس ما أورده الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه “فضائل بيت المقدس” بسنده عن أبي ذر الغفاري أنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيما أفضل؟ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، وليوشكن لأن يكون للرجل مثل سية قوسه (11) من الأرض حيث يرى بيت المقدس خيراً من الدنيا (12) وما فيها (13).
كما روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده (14) بسنده عن الصحابي الجليل ذي الأصابع، قال: قلت: يا رسو الله إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس فلعله إن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون” (15).
حتى أن الطائفة التي على الحق تكون ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس روى أبو أمامه الباهلي عليه الرضوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم كذلك، قالو: يا رسول الله، وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” (16).
وتوج كل هذا الفضل وختمته بالتقديس والمباركة رحلة الإسراء والمعراج إذ كانت إلى القدسن ومنها العروج إلى السماء العلى. أما صلاة النبي الكريم صلوات الله عليه بالأنبياء إماماً فكان ذلك دلالة على أن الإسلام هو خاتم الأديان وأن محمداً بن عبد الله خاتم الأنبياء والرسل. وكل ذلك يدل على فضل ومكانة هذه المدينة الجليلة والعظيمة وأنها من خير المدن وبقعتها من خيرة البقاع.
وكتب/
د. حمزة ذيب مصطفى
جامعة القدس
عميد كلية الدعوة وأصول الدين سابقاً
12/ ذو القعدة/ 1430هـ-وفق 31/10/2009م
الهامش
1) أنظر تفسير ابن كثير: 4/526، فتح القدير: 5/464.
2) حديث صحيح أخرجه الشيخان وغيرهما.
3) حديث صحيح أخرجه الشيخان وغيرهما.
4) أنظر المزيد في هذه الجزئية عن بيت المقدس كتاب: فضائل بيت المقدس للحافظ ضياء الدين المقدسي: ص39 – 44.
5) حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما.
6) حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما.
7) في رواية الضياء المقدسي لفظه “يكون” بدل “يخرجه” ص49 وهما بمعنى.
8) حديث أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله تعالى في كتابيه صحيح سنن النسائي “ج1/149، وصحيح ابن ماجه: 1/237.
9) سبق قبل قليل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد … الحديث”.
10) رواه أبو داود وابن ماجه: قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 4/7:
روى أبو داود قطعة منه من حديث ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو يعلى من حديث ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم ورجاله ثقات ا.هـ.
11) سية القوس: ما عطف من طرفه.
12) فضائل بيت المقدس: ص 51 + 52.
13) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 4/7: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.
قال محقق كتاب فضائل بيت المقدس الأستاذ محمد مطيع الحافظ هامش ص 52:
وأورده الواسطي في فضائل بيت المقدس ص28 بألفاظ متقاربة
14) ج4/67.
15) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 4/7: رواه الطبراني في الكبير وعبد الله في زياداته على أبيه، وفيه عثمان بن عطاء وثقه دحيم وضعفه الناس.
قلت: ورواه أيضاً الحافظ ضياء الدين في كتابه “فضائل بيت المقدس 67، 68.
16) هذا الحديث جاء بروايات عدة وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وأصحاب السنن والإمام أحمد: لكن لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا من رواية أبي أمامه والصحابة الذي رووا هذا الحديث ليس في روايتهم وأين هم يا رسول الله؟ …. الحديث”.