بسم الله الرحمن الرحيم
لمصلحة من يضيق على الشعب الفلسطيني ويحاصر في لقمة عيشه؟
أمن العالم واستقراره من أمن واستقرار الشعب الفلسطيني
يعيش الشعب الفلسطيني اليوم في محنة اقتصادية كبيرة. ويعاني من أزمات مالية خانقة. وهذا يؤدي بالتالي إلى إضعاف الحركة التجارية ويؤدي إلى خلق مشكلات في أوضاع الناس التعاملية من هذا المنظور مما يؤدي إلى مشكلات أخر تربوية واجتماعية في مجالات متعددة ومتنوعة نتيجة لهذا الظرف العصيب. حيث يعيش قطاع كبير من مجتمعنا ويعتمد اعتماداً كلياً على الوظائف الحكومة أو وظائف المؤسسات الخاصة. ومعروف أن عجلة الاقتصاد بعضها مرتبط ببعض، إذ كيف يتسنى للموظف أن يقوم على احتياجاته واحتياجات أسرته وهو لا يملك مالا ولا ينزل له مرتب؟ ومن هنا فإن التاجر أيضاً ستقف عجلته المالية أو ستضعف، وهكذا حتى تطال هذه الضائقة كل صفوف المجتمع وألوانه. وهذا الأمر إن تقافم وازداد وأخذ في الإستمرارية فقد يحصل ما لا يحمد عقباه، وقد يقود هذا الوضع العصيب الشعب إلى خيارات ليس في مصلحة أحد، لأن الفقر كاد أن يكون كفراً كما قال الإمام علي عليه الرضوان، وصدق ابن المقفع حين قال: رأيت الفقر رأس كل بلاء. فالفقر مفسد للذمم صارف عن الحق، مضيع للمسئولية والأمانة، وسبب كبير في التواء السلوك. إذ تبعات الحياة ومسئولياتها المادية جسيمة سيما في هذا الزمن زمن الفواتير إن جاز التعبير، فيكفي الموظف هم فاتورة الماء والكهرباء والتلفون والإنترنت والضريبة المضافة والضريبة المفروضة على الراتب، ناهينا عن استحقاق الأجر كأجرة البيت وأجور المواصلات، وهناك نفقات التعليم المدرسي والجامعي المثقلة جداً لكاهل الأسرة الفلسطينية، وما أدراك ما نفقات الطبابة والملابس والمناسبات الاجتماعية التي لا بد منها ولا مندوحة عن بعضها، وكل ذلك وسواه ولم نصل بعد إلى القوت ولقمة العيش. ماذا يصنع الموظف والعامل وصاحب الأجر المتواضع ومعظم قطاعات شعبنا هي من هذا الصنف والنوع؟ كان الله في عون أرباب الأسر في أيامنا. هذا كله وسواه لو لم يكن هناك أية مشكلة أو إعاقة في صرف الراتب أو تأخيره عن وقت استحقاقه وصرفه. فكيف إذا حرم الموظف والعامل من راتبه في نهاية الشهر أو أخذ جزءاً منه. كيف سيكون الأمر حينئذ؟ لم لوم الناس على السلوك غير السوي؟ كيف نطالب المجتمع بالنظافة الأخلاقية ونظافة اليد؟ كيف يتسنى لنا محاربة الفساد بأنواعه المالي والإداري والأخلاقي وسوى ذلك؟ إلى متى سنبقى نعيش الناس في مثاليات ونطلب منهم المستحيل أو ما هو فوق طاقتهم وقدراتهم؟ كيف نطلب من الناس الإستقامة ونحن قد وضعناهم وجها لوجه أمام الفساد والطرق الملتوية؟ كيف نطلب من عضه الجوع بنابه ألا يقترب من الطعام الذي بين يديه؟ ونطلب ممن قتله الظمأ ألا يقترب من الماء الذي هو وجاهه ونصب عينيه؟ إلى متى سنضرب للناس على وتر الصبر والمصابرة وشد الأحزمة وربط الحجارة على البطون؟ مع أنني قولاً واحداً من الدعاة إلى المثل العليا والسلوك القويم والدعوة إلى الصبر والمصابرة، وأنا مع النزاهة والأمانة والشفافية كما أنني العدو اللدود للإنحراف والخيانة والفساد وضعف الضمير فضلا عن موته. شعاري في حياتي كلها “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”، “يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”. “ومن يوق شح نفسه فأولئك هم الظالمون”. لا تنهض المجتمعات ولا تتقدم الشعوب إلا بالاستقامة والنظافة والتسديد في الرأي وفي العمل. من غير الممكن أن تعرف الناس طرق ودروب العدالة إذا كانوا غارقين في الظلم ويخوضون بحورها، من المحال أن يهنأ الناس وهم في حالة من الحرب والكرب. من غير الممكن أن يتحقق لدى الناس التكافل الإجتماعي وبعضهم لا يحلم بالخير لبعض. لا يتحقق الإيثار في مجتمع وشعار أفراده. “إذا مت فلا نزل القطر”. لكن لا بد من أن يعان الناس ويوجهوا توجيهاً نظرياً وعملياً صوب الحق والعدل والإستقامة. لا بد من الأخذ بأيدي الناس حتى تستطيع أن تنهضهم من كبوتهم وعثارهم، لا بد من توفر عوامل البناء المتين والقوي كي تخلق منهم مواطنين صالحين.
شعبنا الفلسطيني يعيش ظروف الإحتلال القاسية، والتي من آثارها الحصار الإقتصادي، يدفع شعبنا ثمناً كبيراً لقاء مواقفه السياسية والوطنية التي لا بد له من أن يقفها في طريق طويل للتحرير وإقامة الدولة. وقد هددت إسرائيل شعبنا وقيادته وتوعدت إن ذهبوا إلى الأمم المتحدة للمطالبة ببعض حقوقهم، وذلك بعد ما يئس شعبنا من المفاوضات العبثية وأوصلتهم إسرائيل إلى طريق مسدود.
إن حصار شعبنا ليس في مصلحة أحد حتى إسرائيل نفسها، لأن هذا الشعب إن هدأ هدأت المنطقة، وإن استقر شعبنا استقرت المنطقة، المنطقة جالسة على فوهة بركان اسمها الشعب الفلسطيني، فإن ثار هذا البركان هدد كل الأطراف كل المتجاورين وأولهم وعلى رأسهم إسرائيل. العرب تقول: “إذا حبس القط انقلب أسداً” فكيف بمن يحبس شعبنا بأكمله؟ ماذا نتصور وكيف وإلى ماذا سينقلب هذا الشعب الأبي الذي علم العالم أجمع معنى الإنتفاضة وكيف تواجه الصدور العارية أقوى الأسلحة نفاذاً؟ إذا ألم الجوع بإنسان انقلب إلى وحش كاسر إن لم يجد ما يسد رمقه وجوعه، وقد يتحول إلى مجرم ولص وقاطع طريق. هناك الكثير من الثورات لا سبب لها سوى الفقر والجوع. وهناك في العالم ما يعرف بـ “ثورات الجياع” وانتفاضات غلاء المعيشة، وحراك الزيادة في أسعار السلع، فكيف إذا ضممت إلى كل ذلك سبباً آكد وأشد ألا وهو الإحتلال الجاثم على صدور الأحرار والشرفاء؟ إن كل من يقول أو ينادي أو يوصى من فوق الطاولة أو من تحتها بحصار هذا الشعب إقتصادياً هو في منأى عن الحكمة وبعد النظر. إن كل من يساهم في هذا الحصار بالكلمة أو القرار أو الفعل له مساهمة عرف أم لم يعرف في ادخال المنطقة إلى دوامة من العنف الله أعلم كيف ستكون نهاياتها ومآلاتها ونتائجها.
إن مصلحة الجميع بمن فيهم اسرائيل ألا يحاصر هذا الشعب ولا يضيق عليه ولا يوضع في الزاوية الحرجة. إن تفجير الوضع في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية وقطاع غزة يختلف تمام الإختلاف عن أي تفجير في مناطق أخرى من العالم. ألا وإن ثورة بركان الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة الوطنية وقطاع غزة لتختلف عن أية ثورة بركان آخر في العالم. ثورة وتفجير وانتفاضة الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة وغزة لن تسند أسبابها إلى الأوضاع الإقتصادية فقط ما دام هناك احتلال جاثم على الأرض الفلسطينية، لن تعزى هذه الإنتفاضات إلى شيء اسمه غلاء المعيشة وإن كان الغلاء سبباً مباشراً لها لسبب واحد هو الإحتلال، ستغلف الإنتفاضة أو سيغلف التفجير بغلاف الحرية والتحرر والإنعتاق من ربقة الإحتلال وهذا بدوره سيكون أصداؤه إعلامياً وانعكاساته وآثاره على المنطقة والمحيط وفق هذه التصورات لا وفق التصورات الإقتصادية، وكل من هذه التصورات له استحقاقاته المختلفة عن سواه. ولا نبالغ أبداً إن قلناً أيضاً إن كل أو معظم النزاعات في المنطقة إنما سببها ومردها القضية الفلسطينية لا شيء سواه. ومعظم النيران المستعرة في الشرق الأوسط إنما هي للسبب ذاته، لا بل تعدى الأمر ذلك بكثير، فما جرى من أحداث في الحادي عشر من سبتمبر وما تبعه من ارتدادات وانعكاسات على أفغانستان والعراق ما هو في الحقيقة إلا بسبب القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني وما قاساه ويقاسيه من صفوف الأذى والظلم والتضييق والحصار واحتلال أرضه ودياره. بمعنى إن هدأ الشعب الفلسطيني هدأ معه العالم وإن ثار هذا الشعب كانت أصداء هذه الثورة البركانية عالمية ولن تبقى محلية وكفى. فلماذا إذن يحاصر الشعب الفلسطيني في لقمة عيشه؟ ولماذا تمنع عنه المساعدات ولا يسمح بضخها له كي يتسنى له الخروج مما هو فيه من مآزق وأزمات اقتصادية خانقة له وضاغطة على أنفاسه. إننا لنتمنى على الإدارة الأمريكية أن تتفهم معاناتنا وتعيش واقعنا المرير عيش الشعور وعيش من يعنيه رفع الظلم عن المظلوم، وعيش من تعنيه الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. نتمنى على الإدارة الأمريكية ألا تقف حجر عثرة في طريق أي قرار يقضي بمساعدتنا ورفع الظلم والحصار الإقتصادي عنا. نتمنى على هذه الدول التي تحاول جاهدة تحقيق العدالة للشعوب ومحاولة الإنتصار للمظلومين والمضطهدين والمحتلين أن تقف بكل شجاعة وإباء إلى جانبنا وتنحاز إلى جانب حقنا التاريخي والعقدي في هذه الديار التي تعاني كآخر ديار وآخر شعب من شيء اسمه احتلال أراضي الغير بالقوة.
كما نتمنى على الأصدقاء الأوروبيين أن يكونوا أكثر صرامة في إحقاق الحق وإبطال الباطل في شأننا الفلسطيني مع الجانب الإسرائيلي. نحن نطمح أن يكون الموقف الأوروبي أكثر شجاعة مما هو عليه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إن مما يؤسف له أن نرى دولة كبريطانيا المسئولة مسئولية مباشرة عن مأساة ومحنة وتهجير الشعب الفلسطيني وضياع دياره وأوطانه والسبب الرئيس في الإستيلاء على فلسطين من قبل اليهود وضياع دياره وأوطانه والسبب الرئيس في الإستيلاء على فلسطين من قبل اليهود عام ثمان وأربعين وتسعمائة وألف (1948م)، مما يؤسف جداً أن تقف موقفها الذي وقفته حين ذهبت قيادتنا ومن ورائها شعبنا المكافح إلى الأمم المتحدة كي نستصدر قرار العضوية غير الكاملة في هذه المؤسسة الدولية. إن المطلوب من أوروبا موقفاً أكثر قوة في دعم قضيتنا العادلة وقضيتنا الإنسانية والتي تحظى بحمد الله بدعم معظم دول العالم ودول عدم الانحياز تحديداً.
إن الدعم السياسي والأممي الذي يقدم لشعبنا وقضيتنا على استحياء لا يستطيع انتزاع حقنا من نيوب الليث الحادة والقوية. حق ضائع مسلوب ولا معتصم له ولا رشيد قابع في بغداد له. إننا لنزجي عظيم شكرنا وكبير تقديرنا لكل الدول الصديقة التي وقفت ولا تزال تقف إلى جانب حقنا المسلوب. إننا لنثمن الموقف الداعم من هذه الدول لحقنا في الأمم المتحدة والتي صوتت إلى جانبنا كي نكون عضواً مراقباً في المنظومة الدولية في أعلى درجات التثمين. فهم عندنا في المحل الأسنى والموقع الأثيل.
كما أننا ننظر بوجوهنا صوب الأشقاء والأهل في الوطن العربي، إننا نرقب هؤلاء الشرفاء بعيون هي حادة لكنها تغضي حياء وتغضي عفة وتقى، هؤلاء هم الإخوان والأعوان، وهؤلاء هم الشركاء لنا في همنا وغمنا، على هؤلاء يتنزل قول المصطفى صلوات الله عليه “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. كما أن العتاب على قدر المحبة.
إن الشعب الفلسطيني لينظر إلى أمته العربية والإسلامية نظرة فخار وعزة ونظرة تقدير وإجلال، ونظرة نخوة ونجدة. وإذا ما تطلع إلى الدعم العربي والدعم الإسلامي فمن منظار الأخوة ومنظار الحق الذي يراه ماثلا في أعناق هؤلاء الأهل والأشقاء تجاهه وتجاه محنته القاسية. هل معاناتنا الإقتصادية وحصارنا المادي والأزمات الخانقة والمربكة التي يمر بها شعبنا مما ترضي الله ورسوله والمؤمنين؟ هل الموقف السلبي من معاناتنا من مبادىء ديننا الحنيف وقيمنا العربية الأصيلة؟
أدعو إلى السقيا وبي ظمأ أحق بالري لكني أخو كرم
شعبنا الذي يقف في الخندق الأول من خنادق الدفاع عن كرامة الأمة وحقها التاريخي يصارع الجوع فيصرع؟
شعبنا الفلسطيني الذي يقف كالطود الشامخ مدافعاً عن الثرى المقدس والثرى الطهور لا يجد ما يسد رمقه؟
هذا الشعب الذي أخذ على عاتقه وعاهد ربه أن يدافع عن مقدسات الأمة المتمثلة في أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين يحاصر ويسكت على حصاره؟ هذا الشعب الذي رضي أن يكون مرابطاً رغم ما في المرابطة من مجاهدة ومصابرة يترك وحده يقاوم المحتل والعنت والبطالة والفقر؟
إن دعم الشعب الفلسطين لهو واجب شرعي ووطني وضرورة مصلحة لكل المحيط، بل وللعالم أجمع لأن الحروب وآثارها لا تترك موقعاً أو قطراً إلا وستضع لذاتها فيها رجلاً أو بصمة.
د. حمزة ذيب مصطفى
جامعة القدس
8/ ربيع أول/ 1434هـ –
وفق 20/1/2013م