بسم الله الرحمن الرحيم
يا معشر العرب رفقاً بالإسلام سبب عزكم ومجدكم
“وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون” (1)
الحلقة الأولى
تعيش أمتنا العربية ظروفاً سياسية وتقلبات في طبيعة نظم الحكم وما يجب أن تكون عليه هذه النظم من اتباع للديمقراطية وتنسم لأجواء الحرية، ونبذ للنظم الدكتاتورية والأحزاب المتسلطة على رقاب البلاد والعباد منذ ما يزيد عن أربعين سنة، ولم يتغير حال أمتنا إلا من سيء إلى أسوأ، وما نخرج من هزيمة حتى تلاحقنا أخرى، وما ندخل مأزقاً إلا وهو أشد من سابقه. وها هي قضية العرب لا تزال تراوح مكانها منذ ما يزيد عن ستة عقود، بل ازدادت أطماع المحتل فيها. وها هو يقضم منها شيئاً فشيئاً حال القطتين وقرص الجبنة، حتى لم يتبق من هذا الوطن السليب شيء يذكر. وها هي المدينة المقدسة يعلن اليهود يوماً إثر آخر ومناسبة إثر أخرى أنها العاصمة الأبدية لشعبهم، والتهويد فيها على قدم وساق، ولم يبق من سكانها العرب إلا القليل نتيجة سياسات الطرد والتهجير القسري، وها هي أراضيها غدت نهباً مقسماً للمستوطنات والمستوطنين وأحيطت بهذا السياج الإستيطاني كما يحيط السوار بالمعصم، ناهينا عن جدار الفصل العنصري الذي سلخها وعزلها تماماً عن مدن وبلدات الضفة الغربية. وكل ذلك يجري وأكثر منه تجاه شعبنا على مرأى ومسمع الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. ولم تحرك هذه النظم ساكناً.
كما أن هناك السياسات الداخلية للوطن العربي -إلا ما رحم ربي- التي أحالت المواطن في عقر داره محل الشك والريبة والتهم لدى بعض هذه النظم وفتحت للمطالبين بالحريات والديمقراطية أبواب السجون والتعذيب والنفي والملاحقة، وغدا الفقر عنوان المواطن العربي، وغدا الحرمان ظلاً لهذا المواطن المسحوق، ويرى من حوله دول العالم الحر ودول العالم الأول كيف يعيش المواطن في ظلال نظمه، وكيف هي حياته لدى سياسيه، إذ المواطن العادي لدى تلك النظم لديه من القوة والحصانة والإحترام والحقوق ما لرئيس الدولة أو الوزير فيها. لا يجرؤ أحد على سجنه أو ظلمه أو تعذيبه. المواطن في تلك الدول سيد وله كرامته ويتمتع بكامل حريته السياسية والفكرية، ومتاحة أمامه كل الفرص ليبدع ويبتكر وينجح ويسود. على عكس ما يراه المواطن العربي من القمع والإستبداد وملاحقة الأجهزة الأمنية له ووضعه تحت المراقبة والمتابعة والمساءلة. إذا أراد أن يعمل جواز سفر أو يجدده أو رخصة قيادة وسوى ذلك، وهذه من حقوقه المدنية التي لا يجوز أن يسلبها ويحرم منها، إذا أراد شيئاً من هذا القبيل لا بد من الفحص الأمني والمخابراتي، وقد لا يوافق عليه وبالتالي يحرم من أبسط قواعد حقوقه. كيف لا يثور حينئذ المواطن العربي، وكيف نلوم المواطن العربي والبوعزيزي نموذجه؟.
أراد الله لهذه الثورات أن تنبعث. وأراد لكلها أو جلها النجاح، أراد الله سبحانه لهذه الشعوب الخيرة أن يرفع عنها الظلم وأن تتنفس الصعداء، وأن تثور لكرامتها وتصحوا من سباتها وغفوتها. لا بد للظلم من نهاية، لا بد من ساعة للفرج، ولا بد للعدالة أن ترى النور.
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
وصدق سبحانه: “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”. (2)
الشعوب العربية لديها كرامة وكرم، ففيها عزة وأنفة، وعندها عقيدة حقة، وإيمان قوي، وعزيمة مضاء. الشعوب العربية تتحلى بالقيم والأخلاق والسلوك النبيل، وفيها البساطة التي تخلو من السذاجة. لماذا تحرم هذه الشعوب من أبسط حقوقها؟ لماذا تبقى السيوف مصلطة على رقابها؟ ولماذا لا تنتصر لنفسها إن هي ظلمت أو انتهكت كرامتها؟
الشعوب الأخر ليست أفضل حالا منها، ولا أصفى منها ذهن، ولا هي أقدر منها على العمل. الشعوب الأخر تنتظم لسياسات رشيدة وحكيمة، ولديها الديمقراطية التي تحفظ للمواطن حقه وكرامته، وعندها ساسة ليس لهم مطلق الأمر أو الأمر كله، وليسوا بمتحكمين في رقاب البلاد والعباد، وعندهم المجالات المفتوحة أمام قدرات وإمكانات وإبداعات الفرد، فأفرز كل ذلك حياة رتيبة رغيدة، وأفرز تطوراً في الحياة وتقدماً.
تعيش شعوبنا اليوم ما يسمى بثورات الربيع العربي، وقد استطاعت هذه الثورات في كل المواقع التي نشأت فيها أن تنجح وتحقق أهدافها بالإطاحة بالنظم التي تحكمت في رقابها منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، وسامتها سوء العذاب، وتركتها تأكل من خشاش الأرض في منأى عن رغد العيش ورفاهية الحياة والكرامة الإنسانية. واتجهت شعوبنا صوب الديمقراطية وصناديق الإقتراع، وهذا ما لهثت وتلهث وراءه شعوبنا، ورضيت هذا النهج السليم والصواب والحق. فلماذا يقف البعض حينئذ معترضاً على نتائج الصناديق، ورافضاً للديمقراطية؟ التي ينادي بها هو شخصياً ويحث حنجرته وهو يصرخ بأعلى صوته “نحن نريد الحرية والديمقراطية”؟ فإذا ما أرادت هذه الشعوب أن تمارس هذا الحق الذي حصلت عليه بعد جهد كبير وتضحيات جسام وإراقة الكثير من الدماء، وبذل الغالي والنفيس في هذا السبيل، يقف البعض ليرفض هذه النتائج، ويريد لنفسه ما يرغب ويشتهي، وما يحب وما يهوى.
الأمور يا قوم لا تترك للرغائب، ولا للهوى، ولا للقناعة فحسب، لسبب بسيط جداً وعظيم جداً في الوقت ذاته، وهو أننا لو تركنا الأمور أو أردنا أن نتركها للرغبة والهوى لما اتفق الناس أبداً، لأن الناس جميعاً لديهم الرغائب الكثيرة وعندهم الهوى المشتت، فإلى أي من هذه الرغبات والهوى يحتكمون؟ وأي من الحاجات الضرورية والكمالية نضعها معياراً وميزاناً؟
إن الإحتكام لنظام الديمقراطية عبر صناديق الإقتراع لهو أفضل وأقوم طريق يعبر فيه عن إرادة الشعب، والناس حينئذ هم أحرار فيما يذهبون إليه.
أما أن يطالب كل فرد أو فئة أو تيار أو حزب بما يرغب ويحب، ويحاول أن يفرض ذلك على بقية أطياف الشعب، كيف سنتفق والحالة هذه إذن؟ وإلام نحتكم حين هذا الخلاف والإحتدام؟ هل نحتكم للعنف أم نحتكم إلى الأيدي والسلاح؟ أم نحتكم إلى المشادات الكلامية والسباب والشتائم؟
وإذا ما أراد الشعب أن يصوت للإسلام ما الذي يمنع من ذلك؟ هل الإسلام شيء وأمر غريب على نفوسنا وعقيدتنا وثقافتنا؟ هل الإسلام فكر غريب عن تربتنا وتاريخنا؟ أم الإسلام فكر وثقافة تتناقض مع الفطرة والمنطق والعقل؟ أم أن الإسلام سبب في انزوائنا عن الأمم والشعوب؟ أم أن هذا الدين يحارب العلماء ويأبى البحث العلمي ويرفض طريقه؟ أم أنه سبب في هزائمنا طيلة فترات تاريخه؟ أم أنه هو المسئول عن فقرنا وتخلفنا؟
لا أدري لم هذا الموقف من هذا الدين الحنيف دين الفطرة والفطر السليمة؟
لا أدري لم هذه الهجمة الشرسة وغير المبررة من العرب على هذا الدين القويم
“ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون”. (3)
لست فاهماً لم الصد عن هذا الفكر النير والفكر الذي أرسى قواعد العلم والمعرفة.
لست فاهماً لم الهجوم الكاسح وبلا رحمة على هذه الثقافة الأصيلة النقية الخالية من كل شائبة والتي تستند في أصولها إلى الحجة والبرهان والدليل، وحاربت التخلف وثقافة العرافة والكهانة وكل ما ليس له خطام ولا زمام من دليل وحجة وبرهان؟
لا أعرف لم كل هذا الموقف السلب الذي لولاه لكنا عبدة حجارة وأوثان وأصنام إلى يومنا هذا؟
قال تعالى: “واتل عليهم نبأ إبراهيم. إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون؟ قالوا: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا: “بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون” (4)
وقال سبحانه أيضاً: “قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً، والله هو السميع العليم” (5).
لم هذا الموقف المتشنج من الدين وأهله وحملته والدعين إليه؟ وكأنه وكأنهم هم الغرباء في الفكر والثقافة والإنتماء والتاريخ والحضارة. هل الفكر الماركسي واليساري الذي طبلنا له وزمرنا عقوداً طويلة وضحينا من أجله بالغالي والنفيس ألصق بفكرنا وانتمائنا وتاريخنا وحضارتنا؟
هل الفكر القومي والبعثي أرقى وأقوم من الفكر الإسلامي وعقيدة التوحيد والدين الحق؟ هل ما لدينا من نظم وتشريعات وقوانين وضعية أكثر نضاجة وأشمل دراسة وأوسع معالجة للقضايا الإنسانية والبشرية من النظام والقانون الإسلامي؟
“أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون”؟ (6)
علماً أن معظم القوانين الوضعية لدى الغرب فضلاً عن العرب هي من الإسلام وأصلها من ثقافة هذا الدين وما جاء به وما سطره علماؤه وفقهاؤه وقضاته الأجلاء.
إن القانون الفرنسي والذي يعد ويعتبر من أرقى النظم والقوانين الوضعية لهو مستل ومستمد من الفقه الإسلامي وتحديداً من الفقه المالكي بحكم تماس الفرنسيين مع بلاد المغرب العربي والشمال الإفريقي التي كانت تدين هذه المناطق ولا تزال بالفقه المالكي، لأنهم مالكيوا المذهب والثقافة والنظام.
لماذا لدى البعض من مثقفي العروبة الإستعداد ليتبع كل ناعق ومدعي، ولو كان على غير هدى وبلا خطام ولا زمام في الحجج والبراهين ويرفضون اتباع الإسلام ونهج هذا المذهب الحق الذي يأبى إلا الحجة والبرهان والدليل “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” (7).
“ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا”.
لماذا يحاولون أن يكونا أتباعهاً لأناس من هنا وهناك ويقولون بقولهم وينهجوا نهجهم ويأبوا أن يكونوا أتباعاً لفقهاء الأمة وعلمائها ومفكريها ومثقفيها؟ ليسموا رجالهم ثم بعد ذلك ينظر ويرى هل هناك وجه للمقارنة بين رجالهم هؤلاء وبين الأفذاذ والعظماء من رجال الإسلام؟ وهم في الحقيقة ليسوا رجال الإسلام فحسب، بل رجال الدنيا بأسرها وسادة أهلها بلا منازع.
يا معشر العرب قبل أن تعادوا الإسلام إعرفوه، وقبل أن تشنوا عليه هجومكم بلا نضج إقرؤوا عنه، قارنوا بين أن كنتم عرباً هائمين على وجوهكم في الصحراء وبعد أن أسلمتم لله رب العالمين وآمنتم. قارنوا بين أنفسكم قبل أن تكونوا شيئاً مذكورا وبعد أن صرتم قادة الدنيا وأعزها وأغناها وأعلمها.
إياكم أن تخاصموا شيئاً أو أمراً أو أحداً دون دراية أو علم. دوماً وأبداً يجب أن يكون الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
“اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”
د. حمزة ذيب مصطفى
جامعة القدس
27/ جمادي الأولى/ 1433هـ –
وفق 20/4/2012م
الهامش
(1) آية رقم 44 من سورة الزخرف.
(2) آية رقم 5 من سورة القصص.
(3) آية رقم 30 من سورة الروم.
(4) الآيات رقم: 70، 71، 72، 73، 74 من سورة الشعراء.
(5) آية رقم 76 من سورة المائدة.
(6) آية رقم 50 من سورة المائدة.
(7) آية رقم 111 من سورة البقرة.